كان سائدًا في العصور الفرعونية القديمة أن يتزوج أفراد الأسرة الحاكمة من بعضهم البعض كأن يتزوج الأخ من شقيقته لحفظ الدم الملكي والزعامة الملكية. وهذا ما حدث بالفعل، كما يقول علماء المصريات، والذين يعزون الإعاقة في ساق الملك الشاب "توت عنخ آمون" إلى أن والده، ووالدته هما أخ تزوّج من أخته. وبعيدًا عن الأسباب البيولوجية لتحريم زواج المحارم، هناك العديد من النتائج الاجتماعية لهذا التحريم والتي ربما لن ندرك حجمها الحقيقي كاملةً.
ربما نعمة وجود مفهوم "المحارم" في الدين هي من النعم المغبونة التي لا نشكر الله ﷻ عليها كفاية. إن تداعيات ونتائج وجود نظام "المحارم" عميقة الأثر في حياة كل منا. فهل حقًا ندرك مدى أهمية وعمق هذا الأثر؟ في هذه المدوّنة، نتفكّر في هذا النظام الاجتماعي وآثاره.
أمان وحب بدون مُقابل
أول ما يتبادر إلى ذهني هو "الأمان" ونقاء العلاقات بين الآباء والأبناء، وبين الأشقاء، وبين الأجداد والأحفاد، وكل علاقات المحارم. استدعِ إلى ذهنك تفاعلك مع غير المحارم من الأهل، أو زملاء وزميلات الدراسة والعمل. كم مرة شككت في نوايا من يتعاملون معك؟ كم مرة لم تكن متأكدًا من مغزى أو مقصد إشارة، أو ثناء، أو تلميح ما؟ طالما أن باب إمكانية تطور العلاقة مفتوحٌ، فباب الشكوك والمطامع مفتوحٌ أيضًا.
لذلك إن إغلاق باب إمكانية تطور العلاقة لشكل جنسي في حالة المحارم، يسمح بأنقى أنواع العلاقات، والسمو الوجداني، والأمان. يرتاح العقل، والقلب يطمئن لكل احتضان، وتلامس، وإطراء.
يثق المرء في حب من حوله لأنهم لا يطلبون أبدًا أي مقابل جسدي لهذا الحب. نتعلّم جمعيًا الحب غير المشروط والذي لا يتلقى الفرد مُقابلاً عليه.
إن هذا الأمان أيضًا هو أحد مزايا "ثبات" مفاهيم هامة في الإسلام كمفهوم الهوية الجندرية ونوع الإنسان سواء ذكر أو أنثى وأيضًا "ثبات" فكرة أن العلاقة الخاصة تكون بين رجل وامرأة. ففي المفاهيم الغربية الحديثة نسبيًا يستشري مفهوم "السيولة" أو الـ fluidity، بمعنى أن نوع الإنسان "سائل" متدرج بين الذكورة والأنوثة وليس "ثابتًا". كما أن الميول الجنسية يمكن أن تتعدد للشخص الواحد بين انجذاب لرجال أو نساء أو كليهما. رجوعًا إلى نقطة الأمان في العلاقات، يوسّع هذا دائرة عدم اليقين في علاقات الفرد. فأي شخص يقترب منه أو يُعبّر عن اعجابه به ممكن أن يكون "طامعًا مُحتملاً". يشكّل هذا عبئًا كبيرًا وارهاقًا ذهنيًا للفرد محاولاً دومًا فك طلاسم تصرفات من حوله، والتأكد من نواياهم. ولكن بثبات مفاهيم النوع والتوجه الجنسي، يطمئن الرجل مع أصدقائه، وتطمئن النساء مع الصديقات، بدون أن تدخل شكوك النوايا في كل موقف.
وكذلك الحال بالنسبة للمحارم. ربما ليس سهلاً علينا إدراك الأمان الذي نعيشه مع محارمنا لأننا ربما لم نفكر فيه قط. ولكني أدعوك للتفكير فيه وأدعوك لإدراك السلام، والأمن، وراحة العقل، والقلب التي تعيشها مع محارمك. ثم قارن ذلك المشهد، بدخول أول شخص ليس من محارمك إلى الغرفة. راقب تحوّلك الفكري، والوجداني، بل وتحوّل وضعية جسدك في بعض الأحيان. راقب اطمئنان الرجل لترك زوجته مع أخيها ومحارمها واطمئنان الزوجة لاختلاء زوجها بمحارمه. حينها قد نستطيع أن ندرك نعمة هذا الأمان مع المحارم ونعمة الراحة في العلاقات الأسرية.
دائرة دعم واسعة واحتياج إنساني
هناك احتياج إنساني لحديث المرأة مع الرجل والعكس. هو احتياج إنساني قبل أن يكون مصدرًا للدعم للشخص في طلب النصيحة أو "الفضفضة" أو تجاذب أطراف الحديث. ونظام "المحارم" يتيح دائرة الدعم تلك للرجل والمرأة في نطاق المحارم. فتجد الفتاة كيانًا ذكوريًا آمنًا في والدها، وعمّها، وخالها، وجدّها يمثلون جميعًا الحكمة والنضج والخبرات. وتجد كيانًا شابًا في أخيها يشاركها أفكار جيلها وواقعها. والرجل كذلك. هذا بالطبع بالإضافة إلى الدعم الجسدي في حالة المرض والضعف والدعم الوجداني في حالة الانهيار العاطفي. كل هذا يتم تقديمه بشكل آمن تمامًا وبدون أية عواقب وخيمة في داخل إطار نظام الأسرة والمحارم. وهو نظام لا ينفرط عقده بطلاق أو إنهاء شراكة. بل هو "صلة رحم" يُعاقب قاطعها مما يضمن استمرارية هذا النظام من الدعم الآمن.
إن تفكك النظام الأسري وعدم تقديم أفراد الأسرة من المحارم للدعم لبعضهم البعض، نتج عنه عاهات اجتماعية متعددة منها بحث النساء والرجال عن دعم من الجنس الآخر ويجدونه في "أصدقاء" الدراسة والعمل والتواصل الاجتماعي. مما يؤدي إلى نتائج غير حميدة في أغلب الأحيان إلى جانب كونه غير متسق مع التعاليم الإسلامية.
إن وجود نظام المحارم يضع دائرة واسعة من الدعم الوجداني والجسدي لدى الأفراد من الجنس الآخر في إطار آمن لا تشوبه النوايا الطامعة.
تسهيلات لأهداف أكبر
أفكر كثيرًا في موضوع الإخوة بالرضاعة. فما هو الأثر البيولوجي المتحقق من الرضاعة الذي يجعل من الطفل الرضيع أخًا لبنات من أرضعته ولا يمكنه الزواج منهن؟ لست من أهل التخصص في هذا الأمر ولكن أستطيع دراسة النتائج الاجتماعية. إن هذا التيسير الإلهي يفتح المجال لكفالة اليتيم الذي يمكنه أن يجد بيتًا آمنًا يعيش فيه إذا أصبح ابنا للمُرضِع، وأخًا لبناتها وأبنائها، وابن أختٍ لشقيقتها. يجعل هذا حياته بينهن ممكنة بلا حرج ولا تضييق ولا تخوفات.
مساحة حرية للمرأة وتدريب للرجل والمرأة
كما أن المرأة المأمورة بالحجاب، تجد في وجود المحارم فسحةً ومجالاً للحرية والجلوس بأريحية مع محارمها وفي بيتها بدون الاحتياج للتقيّد بالحجاب.
بالإضافة إلى كل ذلك، يتيح نظام المحارم تفاعلاً عمليًا في إطارٍ آمن بين الرجل والمرأة يسمح لكلٍ منهما بفهم طبيعة الطرف الآخر والتدرّب على التعامل معه مما يساعد كلاً من الرجل والمرأة على التدرّب لأدوارهما المستقبلية.
حفظ القلب، والعقل، والجسد
إن نظام المحارم يحمي منظومة الأسرة الحالية والمستقبلية للأفراد ويحفظ الصحة النفسية والجسدية لأفرادها. تخيّل معي لو أن الفتاة تنشأ في أسرة والأب والأخ والعم والخال والجد ليسوا جميعًا محارمًا لها! تخيّل لو لم يكن الأمر محسومًا بقرارٍ إلهيٍ صارم؟! للأسف الشديد نحن لا نحتاج لأن نتخيّل لأن هناك بالفعل حوادث انتهاك وحشية لتلك القدسية داخل بعض الأسر في مجتمعاتنا. فقد أفرز مرض المجتمع في السنوات الأخيرة في بعض البلدان، قصصًا تدمى لها القلوب تؤدي إلى تشويه نفسيات الأطفال وإعاقتهم اجتماعيًا عن الوصول لعلاقات سوية في المستقبل. ولكن على الأقل، تظل هذه القصص هي الاستثناء المُستهجَن والذي يُعاقب عليه القانون (حتى الآن). فتخيّل معي إذا كان الأمر مباحًا منتشرًا لا حرمة فيه؟ على الأغلب وببلوغ الشاب والفتاة سن الاستقلال ستكون لديهم تجارب مشوهة وممارسات تجعل تكوينهم لمفاهيم سوية عن الحب، والزواج، والأسرة أمرًا مستحيلاً.
نعم تترادف علينا من الخبير، الحكيم، الرشيد ﷻ
كلّما تأملنا في النظام الإلهي الذي وضعه الله ﷻ سواءً كان نظامًا بيولوجيًا، أو نفسيًا، أو اجتماعيًا، أو قانونيًا، أو ماليًا، أو أي من النظم الإلهية المُحكمة، نجد أننا أمام سيل من النعم تترادف علينا بدون حتى أن ندرك أثرها وعمقها. ولو تأملنا حياتنا بدونها للحظات، لسجدنا شكرًا ولامتلأت قلوبنا عرفانًا وامتنانًا! إن ربي خبيرٌ، بصيرٌ، عليمٌ، حكيمٌ، رشيد. فلله الحمد والمنّة.
نظام يدل على الخالق
إن الناظر للنظام الاجتماعي الإلهي، قد لا يدرك مدى الرحمة الإلهية فيه والعناية بكل التفاصيل. إن من عظمة نظام "المحارم" هو أنه يحفظ نظام "المعنى" في الحياة، بل ويدل على وجود إله خالق حكيم. فلا يمكن تبرير وجود "نظام المحارم" بأي فلسفة أو توجه فكري لا يعترف بوجود "معنى" واحد وخالق وضع معايير للصواب والخطأ. ففي غياب منظومة تعاليم إلهية واضحة وثابتة، ما الذي يمنع الأخ أن يتزوج أخته؟ أو الخال من ابنة أخته؟ أو الجد من حفيدته؟ بل على مر العصور، كان الزواج الرسمي بين المحارم شائعًا وخصوصًا في الحضارة الفرعونية وإلى اليوم لا يجرّم القانون علاقات المحارم في بعض البلدان.
كما لا يمكن فض الإشكالية بالمنطق في عالم أصبح يتجه للنسبية في كل شيء وأصبح يصر على الغاء "المعنى" وجعله شيئًا نسبيًا حسب "شعور" كل شخص! وفي ظل هذا العبث، ليس من اختصاص القانون تجريم زواج المحارم أصلاً، فعلى أي أساس؟! إذا اعترفنا بنظام المحارم وضرورته، فلا محيص من الاعتراف بأن هناك "معنى"، و"قانون" جاء من أعلى. بل أن نفور النفس من فكرة زواج المحارم في حد ذاتها، لهو دليل على برمجة أخلاقية لا يمكن أن تأتي من تطور أو انتقاء طبيعي