أحلم بأن أعيش في دولة فيها حرية فكرية كاملة، لكنها حرية منضبطة بالأخلاق والأدب. ولا يخيفني أن يكون في هذه الدولة فكر مخالف للدين، لثقتي المطلقة بديني، وأن حجة الله عزّ وجلّ بالغة، وأن دينه غالب لا محالة، فلن يشادَّ هذا الدين أحدٌ إلا غلبه.
لقد كفل الإسلام للناس حرية الفكر، فمن حق الإنسان أن يدعو إلى أفكاره ويروّج لآرائه، ما لم يؤدِّ ذلك إلى إفساد أو إحداث ضرر، ومما يدعّم قولي أن القرآن الكريم حفظ لنا أقوال الكفار واعتراضهم على الله تعالى، ونقدهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهي في غالبيتها أقوال كفرية، وفيها إساءة مع الله تعالى، ومع نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
ما هو الفكر؟
قرأت كثيراً وبحثت أكثر عن تعريف للفكر فلم أجد ما يقنعني، فاجتهدت أن أصوغ تعريفاً للفكر من وجهة نظري، كما أراه وأمارسه، وهو تعريف يستند إلى اللغة العربية، وقد أضفت إليه ما قاله المفكرون.
الفكر هو: إعمال العقل في أمر ما، للوصول فيه إلى رأي جديد.
فليس الفكر بحفظ للنصوص أو المتون، وليس هو كذلك بقراءة المطولات والمختصرات، وليس كذلك بالمصطلحات المعقدة التي لا يفهمها الناس، فإذا لم أخرج بفكرة جديدة، فلست إلا مقلّداً لمن سبقني.
ويتم تصنيف المفكرين بحسب الموضوع الذي يُعمِل فيه العقل، فمن أعمل عقله في مسألة اقتصادية وخرج برأي جديد، نسميه مفكراً اقتصادياً، ومن يُعمل عقله في مسائل تربوية، نسميه مفكراً تربوياً، والذي يُعمل عقله في قضايا السياسة ويخرج بنظريات وتحليلات سياسية، نسميه مفكراً سياسياً، وهكذا..
وسطية الحرية
النظام الإسلامي أو الدولة الإسلامية وسط بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والتساهل، وهي كذلك وسط في شأن الحرية، فلا تبالغ في منح الحرية حتى تصير فوضى تؤذي أفراد المجتمع أو تفسد الأخلاق.
كذلك لا تبالغ في كبت الحريات وخنقها، ليصير نظام الحكم فيها نظاماً استبدادياً كغيره من الأنظمة، التي حكمت البشر وقهرتهم، بل هي وسط بين الإفراط والتفريط.
حريّة مقيّدة بالأدب
الحرية الفكرية كما أتخيلها في الدولة التي أحلم بها، تشمل حرية التفكير، وحرية الدعوة إلى الأفكار والآراء، وحرية الاعتراض والانتقاد.
لكن هذه الحرية لا تتيح السب والشتم، والتحقير والنيل من الآخرين، فهي حريّة مقيّدة بالأدب، ومنضبطة بالأخلاق.
فلا يحق لأحد أن ينبري في وسيلة إعلامية ويكيل الاتهامات جزافاً إلى شخصية أخرى، أو يلبس ثوب خيانة الوطن لأحد، أو أن يجرح به أو يتناول من سمعته وكرامته، لكنه إذا فعل ذلك فلا يستطيع أحد منعه، وكل ما يملكون هو رفع القضية للقضاء، وينبغي عندئذ للقضاء أن يحاكم الذي يسيء الأدب أو يتجاوز حدود النقد المهذب (الذي يهدف لتصحيح الخطأ، وتصويب المسار، لا إسقاط الآخر وتسفيه الآراء)، وهذا ينطبق حتى على الحاكم، فلو هاجمه أحد بأسلوب فيه إهانة وإسفاف، فالحاكم لا يملك منعه أو عقابه، وإنما يشتكي للقضاء، وهو يقرر بشكل مستقل إن كان المهاجم قد تجاوز حدود الأدب.
لذا فسوء الأدب – باسم الحرية - أمر مرفوض، مهما كان مصدره، فحتى أشد البلاد انحلالاً يوجد فيها قوانين تنظّم الحريات، ومن يخالف الأدب فقراره بيد القضاء وليس الحكومة، ولكن الرقابة تكون فيها على الأخلاق لا على الأفكار.
ثمن حريتي
كيف تمارس الحرية المنضبطة.. بل كيف تؤتي ثمارها إذا كنت سأدفع حياتي ثمناً لحريّتي، أو السجن ثمناً للكلمة الصادقة الناصحة الحرة..؟
وتخيلوا أن بعض مواد الدستور في إحدى الدول الديكتاتورية تنص على عدم جواز الانتساب إلى الحركة الإسلامية وعدم دعمها، ويعاقب بالإعدام كل من يثبت عليه الانتساب إليها أو تقديم الدعم لها، وهذا كله متوقع ومفهوم، لكن القانون لا يتوقف عند ذلك، بل ينص على أنه يعاقب كذلك كل من "يفكر" بالانضمام إليها، فحتى من "يفكر" يتم عقابه!!
من يفعل ذلك، ويقرر مثل هذه المواد الدستورية، هل يُؤتمن أن يكون ولياً لأمر المسلمين..؟ وهل يصلح أن يكون حاكماً عليهم، أم الواجب خلعه وتنحيته.
التقوى هي المانعة والحاضنة
في الدولة التي أحلم بها لا مكان للمنع فيها ولا للقمع، فهي دولة لا تمنع الناس من الفكر والثقافة والتعبير عن الرأي، لأن من قواعد بنائها أن الشيء الذي سيمنع الناس هو تقوى الله تعالى، والتربية السليمة، وليس القهر والاستبداد، والظلم والتعسف.
فمن السهل أن نضبط ما بين أيدينا من وسائل الثقافة والإعلام، كفضائياتنا وقنواتنا، لكن هل نملك القدرة على منع الناس من استخدام الانترنت..؟!
لذا فليس القهر والاستبداد هو الذي سيحمي شبابنا وأبناءنا، بل الذي سيحميهم هو تقوى الله تعالى أولاً، ثم جرعة قوية من التربية الصالحة، وتقديم إعلام يرتقي بالقيم والسلوكيات الإنسانية.
وإن لم ينفع ذلك فتتم حماية الناس عبر القانون والقضاء والمحاكم وإقامة العدل، فالقانون والقضاء هو الجدار الأخير الذي يضمن عدم تجاوز الناس بعضهم على بعض أو تناول بعضهم الآخر بالاتهام أو الاستهزاء أو إساءة الأدب أو السب والشتم وكل ما يسيء إلى الكرامة الإنسانية.