منذ سنوات ومع انطلاقة سيرورة الثورة التونسية، وضع على جدول أعمال جل الفاعلين الاجتماعيين نقاش متواصل حول الخطوط العريضة لضبط الحد الأدنى من قاعدة المساواة والكرامة والإنصاف في السياسات العمومية.
هو اليوم أكثر من أي وقت مضى، يراوح مكانه وسط صدى الهتافات الصاخبة التي عبر عنها الشعب التونسي على نطاق أوسع في جميع الاحتجاجات والحراك الشعبي دفاعا على تحقيق العدالة الاجتماعية، في مقابل صمت مريب ورغبة جامحة من ماسكي السلطة لإحداث تغيير راديكالي للإنفاق وللسياسات الاجتماعية بحجة أن التحولات الحادة في السياسة والاقتصاد أدت إلى إجهاد البرامج الاجتماعية الحالية وتفاقم ضغوطاتها المالية في ظل العجز المتواصل.
لقد أدى الأمل المتجدد في الدولة رفاه اجتماعية بُعيد جانفي 2011 إلى المطالبة دوما بإصلاحات شاملة وفعالة للسياسة العمومية رغم التوجس من النتائج اليمينية للصندوق خصوصا أنه من المستحيل فصل السياسات الاجتماعية عن هوية المؤسسات السياسية ومن المناسب أن نٌسائل ونتساءل كيف تعاملت هذه المؤسسات مع قضايا عدم المساواة الاجتماعية منذ تركيز أول حكومة منتخبة وحتى بُعيد انقلاب 25 جويلية؟
لن نبحث كثيرا فستظهر أمامنا جليا تفاقم الفوارق الجهوية خصوصا وقد أخفقت جل السياسات التي طُبِّقت من قبل الحكومات المتتالية في تحقيق العدالة الاجتماعية وكشفت عن وجود هوة ساحقة بين العمل الحكومي وقضايا الفئات الهشة والمحدودة الدخل والجهات الداخلية والأحياء الشعبية رغم الترويج الدائم أن المسألة الاجتماعية هي جوهر الانتقال الديمقراطي.
أما نظام الخامس والعشرين من جويلية فمرسوم المالية لسنة 2022 يبيّن وبالملموس التضارب الفاضح والانفصال الحاد بين القول السياسي لسعيّد وفعله الاقتصادي والاجتماعي فلا رمزياته ولا سردياته حُولت إلى قرارات عملية تقاطع مع التوجهات النيوليبرالية بل كما عوّدنا دائما بقيت ثرثرة فراغ.
1-ملف مستعجل: منظومة الدعم في تونس
يجزم الكثير من المتابعين أن أولى الملفات المطروحة للحسم النهائي ضمن خطط الإصلاح الهيكلي المفروض من صندوق النقد الدولي سيكون منظومة الدعم خصوصا أن الوصفة جاهزة وتسوّق في الإعلام والمؤسسات ذات الصلة، ففي الوقت الذي يشكو فيه جل التونسيين من اهتراء قدرتهم الشرائية وغلاء المعيشة يدفع عرابو السلطة نحو مراجعة الإنفاق الاجتماعي وتدور الكثير من السرديات حول التعويض والدعم دون معرفة دقيقة بتفاصيله أو حتى تبيان هيكلته ونشأتها وأهدافه.
تأسس الصندوق العام للتعويض ، الذي يتعرض رأسا لعملية شيطنة من سياسيين في الداخل ومن هيئات مالية دولية ، في أربعينيات القرن الماضي بموجب مرسوم صادر عن الباي في 28 جوان 1945 وتمت هيكلته كصندوق خاص للخزينة بداية من سنة 1967 ومن ثم إدماجه في ميزانية الدولة سنة 1971، بهدف إرساء مخطط لدعم القدرة الشرائية للمواطنين لا سيما ما يتعلق بالمواد الأساسية والتخفيف من وطأة تقلبات الأسعار العالمية وتشجيع الإنتاج الوطني خاصة من الحبوب والحليب.
وفي أوائل التسعينيات اقتصر دعم المواد الغذائية على المنتجات الاساسية التي تستهلكها الفئات ذات الدخل المنخفض وهي التي يغطيها برنامج الدعم الحالي المحين في ديسمبر 2010 من الحبوب (القمح الصلب والقمح الكامل والشعير والذرة ومنتجاتها من العجين الغذائي والكسكسي والخبز والسميد) والحليب نصف دسم والسكر والطماطم المعلبة وزيت الطبخ النباتي (زيت الحاكم) يضاف اليها منتج آخر هو الورق المعد لطباعة الكراس والكتاب المدرسي.
ويتولى الصندوق مسؤولية التصرف وإدارة الدعم عبر متابعة بيع السلع المحلية أو المستوردة بأسعار محددة بأقل من تكاليف الإنتاج أو الاستيراد لذلك فإن دعم هذه المواد الغذائية يشكل تخفيضات في الأسعار يستفيد منها المستهلكون بشكل مباشر ويحوّل الفرق بين التكلفة الفعلية للإنتاج أو الاستيراد الى المصنعين والمستوردين.
ولكن منظومة الدعم لا تقتصر على هذا الصندوق فهي تتوزع إلى ثلاثة أنظمة مختلفة ومستقلة عن بعضها البعض: الصندوق العام للتعويض سابق الذكر، دعم الطاقة ودعم قطاع النقل العمومي.
وتقدّر نفقاتها في ميزانية السنة الجارية (2022) ب 3771 مليون دينار مُخصصة لدعم المواد الأساسية و بمبلغ قيمته 600 مليون دينار لدعم النقل العمومي بعنوان دعم النقل المدرسي والجامعي بتعريفات منخفضة وكذلك النقل المجاني لبعض الفئات الخصوصيّة و الأسلاك النشيطة.
فيما خصصت 7262 مليون دينار لدعم المحروقات التي يبدو أن معظمها مواصلة لتقديم الإعانة للشركات العمومية الثلاث التي تركز أنشطتها على قطاع الطاقة STEG وETAP وSTIR.
2 -على أبواب تغيير جذري؟
تتحجج جل التقارير الصادرة عن الهيئات المالية الدولية أن الأسر ذات الدخل الأعلى في تونس تستفيد على وجه الخصوص، من دعم المواد الغذائية بما يقرب من أربعة أضعاف ما تستفيده الأسر ذات الدخل المنخفض. وبالمثل، تستفيد الأسر ذات الدخل الأعلى من دعم منتجات الطاقة بما يقرب من 40 مرة أكثر من الأسر ذات الدخل المنخفض.
وتقدّر أن وصفتها لتعويض نظام الدعم الحالي في تونس سيخفض التكاليف المالية ويحمي الفقراء بشكل أفضل عبر الإلغاء التدريجي لدعم الأسعار المعمم وإنشاء شبكات أمان اجتماعي وتركيز نظام التحويلات المباشرة لصالح الأسر أو الأفراد الفقراء الذي من شأنه أن يوفر حماية أفضل للمحتاجين.
بالإضافة إلى ذلك، سيقلل من نفقات ميزانية الدولة ويحرر مواردها وهو الهدف الأصلي من الموضوع.
طرح ينفيه الباحث في الاقتصاد السياسي محمد ضياء الهمامي الذي استند في مقال في الغرض لدراسة حول توزيع الدعم في الصندوق العام للتعويض صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (INS) ومركز البحوث والدراسات الاجتماعية (CRES) والبنك الإفريقي للتنمية (BAD) تضمّنت المعدّلات السنويّة للدعم للفرد الواحد حسب الفئة الاجتماعيّة للسكان بالدينار واسقط السردية الملفقة من انتفاع الأسر الميسورة أربع مرات ضعف انتفاع الأسر الأقلّ دخلا بمنظومة الدعم فالفرق لا يتجاوز 21,9 دينار سنويا وهذا يعادل ربع الدعم التي تستفيد منه الأسر الميسورة خلال سنة كاملة وهي التي تدفع بما أدناه 200 دينار سنويا إلى الصندوق العام للتعويض كضريبة 1 ٪ على الدخل والتي تشمل من تتجاوز مجموع مرتّباتهم السنويّة 20 ألف دينار وبذلك تغطّي الضريبة انتفاعهم بالدعم فهل ما يزال بوسعنا القول أن هذه الأسر تنتفع بالدعم؟ أو أن الطبقة المتوسطة كذلك معنية بالإسقاط من هذا الامتياز ؟
الظاهر أن سياسة الدعم وآلياته تتجه نحو تغيير جذري عبر فرض النظام المستقبلي لتحويل مبالغ ثابتة بصفة سنوية مباشرة بعد تركيز برنامج المعرف الوحيد استعجالا وستقتصر المنح حصرا على العائلات المعوزة وبدرجة أقل ماليا المحدودة الدخل فيما ستتضرر باقي الفئات من هذا التغيير لحاجة الحكومة خفض الإنفاق الاجتماعي.
3-حجم الهشاشة الاجتماعية
تونس التي تعاني الهشاشة الاجتماعية الحادة مع تداعيات أزمة الكوفيد وتبعاته لتقلص النمو الاقتصادي وانهيار المنظومة الصحية تبدو السلطة القائمة فيها منذ سنوات غير معنيّة بالارتدادات العنيفة للوضع الاقتصادي الراهن على الطبقة الوسطى وعلى الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة فالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أكد في دراسة أعدها منذ فترة أن نسبة الطبقة الوسطى تراجعت في تونس من 70 في المئة عام 2010 إلى 55 في المئة عام 2015، لتصل عام 2018 إلى حدود 50 في المئة والرقم في ازدياد بخاصة بعد جائحة “كورونا”.
وتطالعنا دراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف - الهشاشة - الانتظارات "أن حجم الهشاشة الاجتماعية في تونس في تزايد مطرد حيث تشير الأرقام الرسمية أن الطبقة ضعيفة الدخل والمحدودة والعائلات المعوزة تتجاوز المليون عائلة حسب الأرقام الرسمية بتحيين ديسمبر 2021 حيث تشير تقارير وزارة الشؤون الاجتماعية أن عدد العائلات المعوزة والمنتفعة بالعلاج المجاني والمنحة(200د) يقدر ب310 آلاف عائلة تنضاف لهم العائلات ضعيفة الدخل المنتفعة فقط بعلاج التعريفة المنخفضة 630 آلف عائلة إضافة إلى المنتفعين بجراية تقاعد لا تتجاوز 180 د حوالي 140 آلف عائلة في معدل لهذه العائلات يفوق 3 أفراد فما فوق، لنتحدث بالتالي عن حصيلة تتراوح بين 3 ملايين ونيف الى 4 ملايين فرد يعانون من الهشاشة الاجتماعية ومقبلين على سنوات ضنك يمثّل فيه التضخم المطرد وغلاء الأسعار العنوان الأبرز للمرحلة والكابوس اليوميّ للمواطن.
هذه الأرقام لا تختلف كثيرا عن نسبة مؤشر الفقر متعدد الأبعاد التي توصّلت إليها دراسة رسمية ظلت مخفية في أروقة المعهد الوطني للإحصاء وعرضت في ندوة دولية حول موضوع الفقر متعدد الأبعاد في مدينة “أكابولكو” بالمكسيك يومي 8 و9 نوفمبر 2016، وشارك فيها لطفي فرادي، رئيس هيئة التوازنات الكبرى والإحصاء بوزارة التنمية، ومحمد الهادي السعيدي مدير المعهد الوطني للإحصاء قدرت نسبة فقر وطنية بـ28,97 بالمائة، يأخذ فيها هذا المؤشر بعين الاعتبار أربع أبعاد تتمثل في الصحة والتعليم والشغل وظروف العيش.
ومع وجود أكثر من مليوني شخص يعملون خارج المسالك القانونية كمهن حرة ولا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية تتوسع قاعدة الهشاشة الاجتماعية لتنضاف لها أرقام العاطلين عن العمل التي تقارب 700 ألف أو العاملين في الحضائر الجهوية ممن يتقاضون منحة زهيدة تقارب 350 د شهريا.
ولا يمثل هذا الرقم استثناء فالأرقام المتوفرة حول متوسط الأجور في الدول العربية (مؤشر numbeo للأرقام) تشير إلى أن متوسط الأجور في تونس سنة 2018 يقدر بنحو 286 دولارا وتأتي أسفل الترتيب إلى جانب كل من سوريا التي تعيش حربا ومصر التي يفوق عدد السكان بها 100 مليون ساكن بل حتى أجور الوظيفة العمومية في تونس تعتبر من أضعف الأجور وأزهدها في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.
الأرقام الصادمة متتالية فوفقًا لنتائج المشروع النموذجي "ميزانية الكرامة في تونس" الذي أُعدّ بالاشتراك بين أنترناشيونال آلارت ومعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بفرنسا ومؤسسة فريدريش إيبرت -مكتب تونس، كٌشف أن ما بين 40 و50 بالمائة من سكان تونس الكبرى يفتقرون إلى الموارد اللازمة لضمان ظروف معيشية كريمة وغير قادرين على الولوج إلى الاحتياجات الضرورية، فكيف الحال مع الهوامش والدواخل !، كما أظهرت نتائج المشروع الصادر أواخر سنة 2021، أن كُلفة السلةِ الدنيا لضمان عيش كريم لعائلة تتكون من 4 أفراد قٌدر بدخل شهري بـ 2466 دينار بناءا على الأسعارِ المتداولة ربيع 2019، وذلك لضمان الحصول على الاحتياجات الضرورية وهي التغذية والسكن والتعليم والصحة والخدمات وغيرها.
إذن، بقدر ما تنمو ظواهر الفقر والتهميش من سياسات اقتصادية غير إنتاجية يقوم منها الاقتصاد الطفيلي والريعي مقام الأس، فهي تتغذى في الوقت عينه من سياسات غير عادلة في توزيع الثروة ، فلا عجب أن مجتمعا يٌلقى التهميش الاجتماعي فيه بكله على فئات واسعة من الشعب، وينخر الفقر والحرمان أكثر من نصف سكانه هو مجتمع مقصي موضوعيا من دائرة الشأن العام، وبعيد من ميدان المشاركة والانتماء والمواطنة الإيجابية.
4-عيوب لا يمكن إنكارها
أصبح النقاش المتكرر اليوم حول التعويض أكثر حدة ويمثل معضلة يتعين حلها، من جهة بالنظر إلى نصيبها الكبير في ميزانية الدولة وضرورة معرفة أين تذهب أوجه صرفها الحقيقية وكذلك الدور الذي يلعبه في ضبط الأسعار والحفاظ على السلم الاجتماعي.
فقد أدى الارتفاع الكبير في أسعار المنتجات المدعمة وموادها الأولية في الأسواق الدولية الى ارتفاع كلفة الشراءات والنقل البحري ومكوث الحاويات في الميناء والخزن وإلى حدوث انفجار في نفقات الدعم وأيضًا عن تسارع الآثار الضارة المرتبطة بسوء إدارته من قبل وزارة التجارة على مدى سنوات (ضعف الحوكمة والرقابة ،سطوة اللوبيات، مأزق التبذير والتبديد، تحويل الوجهة والتهريب) فكان الرد السريع الضغط داخليا وخارجيا لإعادة النظر في تكاليف الإنتاج والتوزيع لمختلف المنتجات المدعومة والدفع نحو الترفيع التدريجي في الأسعار دون أن تبذل الحكومة واجبها في تكثيف المجهودات في مجال مراقبة تجارة المواد المدعومة بمختلف المسالك وبخاصة تجارة التوزيع والجملة وكذلك المطاحن ومصانع العجين الغذائي ومؤسّسات تعليب الزيت النباتي المدعم رغم وضوح المبادلات غير المنظمة والعمليات الاحتكارية بعنوان هذه المواد علاوة على تحويل وجهة كميات كبيرة من المنتجات المدعمة لصالح الصناعيين (إشباع احتياجاتهم من المواد الأساسية: الدقيق والزيت والسكر) ومسدي الخدمات (أصحاب النزل والمطاعم) والمهربين نحو ليبيا والجزائر .
كما أن التبذير الغذائي وانعكاسه لا يمكن غض الطرف عنه فبقايا الطعام والمأكولات في سلة المهملات لا تقتصر فقط على شهر رمضان بل أصبحت ثقافة استهلاكية سيئة متأصلة تساهم في اختلال موازنات الصندوق جراء الاعتماد على استيراد المنتجات المدعمة (بين 75٪ و 100٪ من الزيوت والحبوب والسكر وما إلى ذلك)، فالدولة تستورد 80 بالمائة من حاجياتها من القمح اللين، أي أن 4 باقات من 5 مستوردة وتمثل واردات الحبوب لوحدها 51 بالمائة من وارداتنا الغذائية حسب دراسة أعدها المعهد الوطني للاستهلاك توضح أن تونس تحتل المراتب الأولى عالميا في استهلاك الحبوب لتنفق حوالي 35 مليون دينار سنويا على الخبز الذي تٌلقى منه حسب بعض الأرقام 900 ألف خبزة يوميا في سلة المهملات يعاد بيع جزء منها في أكياس لمربي المواشي المختصين في التسمين.
المفارقة أن المعهد الوطني للاستهلاك أشار منذ سنوات الى أحد التقارير الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة حول الأمن الغذائي والتغذية في العالم (سبتمبر 2017 ) وحسب هذا التقرير فإن حوالي 600 ألف تونسي لا يتغذون بالكيفية والكمية اللازمتين (sous-alimentés) وهو ما يمثل 4.9 بالمائة من السكان (ان لم يكن أكثر اليوم).
لقد بات من الضروري حوكمة منظومة الدعم ولكن من ناحية أخرى، سيكون من الصعب للغاية تنفيذ إلغاء مفاجئ لجميع أشكال الدعم التقليدية لأنه من وجهة النظر الاجتماعية موضوع متفجر والحلول الجاهزة تقشفية، فحفاظا على مصالح الرأسمال الغنائمي ولوبيات الفساد والتهرّب الضريبي والاقتصاد الموازي تحمّل الحكومات كلفة الخيارات اللاعادلة واللاشعبية للشرائح والطبقات الاجتماعية المهمَّشة والمفقَّرة.
5-بدائل عادلة ومنصفة
منظومة الدعم ليست استثناء تونسيا، ولا تقدر تكلفتها المرتفعة (إن أٌحسنت أوجه صرفها وحوكمتها) أمام حجم الهشاشة الضاربة في أعماق البلاد ودواخلها، بل تستخدمها معظم البلدان حتى الدول الليبرالية، فالتشكيك في أداة متجذرة في الواقع التونسي لا يبدو خيارا صائبا لأنه في الأساس إنجاز اجتماعي بني بفكر وسواعد بناة الدولة الوطنية.
ومهما اختلفت تقييماتنا للدولة التونسية يبقى لديها دائمًا دور اجتماعي نبحث على تطويره ودعمه لا التخلي عنه، والدعم والتعويض هو أحد رافعات السياسة الاجتماعية للدولة، والأمر يتعلق بالسياسات العامة التي تتطلب رؤية وشجاعة حقيقية للإصلاح، فالإصلاح ممكن تمامًا من خلال التوزيع العادل للتكلفة على قاعدة الإنصاف والإدماج لا التقشف.
إن دعم الدولة للمنتجات الأساسية هو أداة اقتصادية توضع تحت تصرف الطبقتين الضعيفة والوسطى (غالبية الشعب) فهم من سيعانون أكثر من غيرهم ويمكن أن تقع فئات عديدة في براثن الفقر فالطبقة الوسطى في خضم تآكل واضح منذ سنوات.
من البيّن اذن التأكيد أن إصلاح منظومة الدعم وحوكمتها يتكون من عنصرين هامين: بلورة الرؤية والأهداف الوطنية ثم رسم الاستراتيجيات والجوانب الفنية للإصلاح المنصف وتدرجه.
فما يتداول من اجراءات منذ فترة هي المطالب التي اقترحها صندوق النقد الدولي، لكن أين رؤيتنا؟؟ يجب أن يكون للبلد رؤيته الخاصة لدور الدولة بعيدا عن سطوة الكمبرادور والضغوطات التي تفرض قهرا لتنفيذ خطة تهدف أساسا إلى إعادة النظر في مهام ووظائف الدولة.
طبعا هم لا يريدون للدولة أن تتخلى عن وظيفتها الأمنية والقمعية، التي تٌضع على ذمتها جميع الموارد مثلما توضحه الميزانية الأخيرة 2022 ولكن يريدون التفويت في الوظيفة الاقتصادية (المؤسسات العمومية) والوظيفة الاجتماعية (خدمات الصحة والتعليم والنقل ومنظومة الدعم خصوصا).
فالاعتماد المتسرع لنظام التحويلات المباشرة سيتسبب، بالإضافة إلى انخفاض القدرة الشرائية، في تأثير تضخمي حتمي، خصوصا ان تم تعجيل القيام به بشكل سيء وهو الأقرب للظن مما سيؤدي إلى دوامة تضخمية قاصمة، فنتائج محاكاة رفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية أبانت احتمالات ارتفاع معدلات الفقر على المدى القصير ب3.6٪ و معدل الفقر المدقع ب1.7 ٪.
لذا لا بديل عن إقامة نقاش مجتمعي حقيقي حول منظومة الدعم في تونس لتحديد أسباب أوجه القصور ومن الضروري إعطاء فكرة للمواطنين التونسيين وتوعيتهم حول حجم التكاليف السنوية الحالية للبرنامج وحدوده مع ضرورة إشراكهم في ضبط التدابير المستقبلية للإصلاح، بل يجب على مؤسسات الدولة إقناع المواطنين كشريك فعلي أن المدخرات ستستخدم بحكمة وحسن تصرف من خلال تعزيز آليات الحوكمة والرقابة من أجل تقاسم المسؤولية واتخاذ الخيارات التصحيحية لتطوير آليات الدعم وتنويع السلة بما يقتضيه الاستهلاك والتغذية الصحية المتوازنة.
ولا يبدو الأمر صعبا للمضي في خطوات رسم استراتيجية وطنية للتحكم في تبذير الخبز وترشيد استهلاك مادة السكر، فالتونسي يستهلك سنويا 37 كلغ من هذه المادة أي أكثر من ضعف معدل الاستهلاك في العالم ما يستدعي زيادة الوعي المجتمعي بأهمية الغذاء الصحي والحد من هدره للمحافظة على الأمن الغذائي.
كما حري بوزارة التجارة أن تتخلص من ضغوط اللوبيات وتتحمل أدوارها عبر ضرورة وضع نظام رقمي للتصرف في الدعم وتفعيل برنامج تأهيل مسالك التوزيع و مكافحة التهريب وتطوير آليات المراقبة الإقتصادية والمالية وإعتماد سياسة تقفي الأثر لكل المنتجات المدعمة .
ولن يكون ذلك متاحا إلا بتحمل السلطة التنفيذية والتشريعية لمهامها وتطوير التشريعات ومراجعة العقوبات وتشديدها والتشجيع على إدماج التجارة الموازية في الدورة الاقتصادية.
ويقع على عاتق مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني دور كبير في وضع وتنفيذ مجموعة متكاملة من المبادرات والبرامج والأنشطة التوعوية تستهدف جميع قطاعات المستهلكين لتسليط الضوء على أهمية ترشيد استهلاك الطاقة والمياه وتبني أسلوب واعٍ ومستدام والمراهنة على الطاقات المتجددة الممهدة لتركيز الاقتصاد الأخضر والنظيف في ظل ما تزخر به تونس من إمكانات مهمة لتركيز مشاريع كبرى حيث الجنوب التونسي الذي يتمتع بالإشعاع الشمسي على مدى السنة علاوة على وجود مواقع في شمال البلاد تخول تركيز مشاريع الطاقة الهوائية لتوليد الكهرباء.
ويبقى الأكيد أن ما سبق ذو أهمية مطلقة ولكن يحتاج لتعزيز عبر دعم قطاع الفلاحة (تطوير زراعات الحبوب وتشجيع منظومة اللفت السكري ودعم منتجي الحليب مباشرة أسوة بما يحدث في بلدان الاتحاد الأوروبي) و تطوير الصناعات الغذائية التحويلية، كأحد البدائل للنهوض بالاقتصاد الوطني وتحقيق الأمن الغذائي والتقليل من فاتورة استيراد المواد الغذائية والكماليات التي تٌوضع على رفوف وأجنحة الفضاءات التجارية الكبرى الحاملة للماركات الفرنسية والتي انفردت بسوق التجزئة الداخلي التونسي وفرضت نمطا استهلاكيا فاقم أزمة الميزان التجاري وتراكمت سطوة عرابي الريع.
فيما سيكون من أوكد الإجراءات وضع ملف إعادة هندسة النظام التمويلي للصندوق العام للتعويض على طاولة الأولويات لتطوير مداخيله عبر فرض أداء عادل على الوافدين وأصحاب النزل والمطاعم والصناعيين وتوزيع العبء الاجتماعي من خلال ضريبة استحقاقية على الثروة مع الحرص على مراجعة النصوص القانونية والترتيبية وإرســــاء قواعد الحوكمة الرشيدة داخل الصندوق (لجان التدقيق ولجان الاستراتيجية ولجان المخاطر...) مع وضع آليات للمراقبة والتقييم أسوة بإصلاح وتطوير دور الديوان التونسي للتجارة.
نافل هو القول أن نجاح السياسات الاجتماعية يٌقدر بأهمية العقد الاجتماعي، الذي تتكامل فيه الديمقراطية السياسية مع المسؤولية الاجتماعية بهدف رسم السياسات العمومية المنصفة وصياغة البرامج الكفيلة بتفعيل الحماية الاجتماعية الشاملة وتحقيق التوازن والعدالة في توزيع الحقوق والأعباء والتضحيات بين المواطنين كافة.