لم تكن عرَجة النظام الدولي وانتهازيته، وازدواجية معاييره بالأمر الذي يصعب ملاحظته، فقد مر من الأحداث ما يكفي لاستشفاف الحقيقة القبيحة خلف الشعارات المزخرفة؛ وقد تناولتُ في مقالةٍ سابقةٍ بعنوان "مفاهيم متحيزة" قضية تجيير المفاهيم والمصطلحات، والمؤسسات، والقوانين والشعارات الإنسانية عبر هذا النظام، لصالح دول وكيانات احتكرت النفوذ، واستحوذت بحكم القوة على القرار!
تعرّضت القيم والمفاهيم الإنسانية خلال العقود الأخيرة لعملية تجريف وتمييع، واستغلال سيّء لرونق معانيها بعد تفريغها من مدلولاتها ومحاصرتها في حيّز ضيّق يخضع بشكل كلي لقوانين تيارية وطبقية وأيدلوجية دينية أو فكرية محددة، واختُزِل استخدامها ليلبي فقط رغبات ومصالح أممٌ من البشر استطاعت خلال غفلةٍ من الزمن تجميع عناصر الهيمنة وتحقيق قفزة في ثلاث من مقومات الحضارة وهي: العلم والمال والقوة، ولكنها افتقدت وللأسف لرابع المقومات وأهمها وهي "الأخلاق".
هذا التلاعب في المنظومة الأممية لم يكن ليحتاج لذكاءِ كاتبٍ يستشفه، أو لباحث يحصي دلائله، فتباين المواقف في القضايا العالمية، وتوظيف كل وسائل العولمة من بينها القانون الدولي الإنساني وشعاراته المنمّقه، وفقاً للمصالح لا للمبادئ، سلوك علني يمارس كواحدةٍ من الاستحقاقات الحضارية للقوى الكُبرى التي طغى على وعيها الاستخفاف بالشعوب الضعيفة، والانتهازية السياسية المتكئة على وضعية التمكين التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية.
ورغم حرصهم الشديد أن يتوقف التاريخ على نموذجهم الحضاري الذي اعتلوا سُلّمهُ، وحاولوا عبثاً إلباسه العالم رغم قِصَره وقصوره، متغافلين عن سنن الكينونة والصيرورة البشرية مستهينين بخطر الإرادة النابعة من بين الحطام، المدفوعة بمجد الأمس المسلوب، ونزعة الانتقام وبدوافع كثيرة، منهمكين في تفريغ وإدارة الأزمات في النطاق العربي متنكرين للقيم الإنسانية التي يدّعون حراستها ليستيقظوا مؤخراً على أصوات المجنزرات، وأزيز الطائرات ورعب الانفجارات يلتهم أفئدة الشُقر ذوي البشرة البيضاء، ونيرانُ حربٍ هي الأخطر إن أغضبتها الرياح تشتعل في طرف ثوب قارتهم المصون.
هذه الحرب وقبل أن تضع أوزارها وأيا كانت نتائجها المباشرة، فإن نتيجتها الأكبر ظهرت مع الطلقة الأولى مسلطةً أنظار العالم على تشوّهات النظام الدولي الذي تديره، وفجاجة انحيازه وهشاشة العدالة فيه، وفضحت أجندات مؤسساته الوظيفية، وكشفت زيف شعاراته البراقة، ومصطلحاته المطاطية القابلة للتكييف حسب المصالح الضيّقة لجلاوزته.
لقد عرّت هذه الحرب سوءة الزيف الذي كان يهيمن على العالم وكشفت مزيداً من نتوءاته، لم تكن روسيا في معزلٍ عنه، ولا بريئةً من جرائمه بحق الإنسانية، وهي دوماً جزء منه ولكنها اليوم تبدُو في الطرف المقابل له مستثيرةً غضبه كاشفة وسائله وأدواته موضحةً حقيقة أن الشركات والمنظمات والمؤسسات، والفعاليات والأولمبيات، والمنتديات العالمية والأممية أدوات وليست خدمات. وكلها سُخِّرت في هذه الحرب وبلا هوادة.
تبخر شعار الروح الرياضية ونالت العقوبات حتى جمعيات رعاية القطط، كلما قيل لنا أنه لا ينبغي إقحامه في السياسة والصراعات، اتضح أنه وسيلة صراع وأداة تحكم في أيدي صانعيه، ولا توجد وسائل عولمة بل وسائل تحكم متقدمة.
فها هي وسائل التواصل الاجتماعي ترفع القيود عن نشر الكراهية والتحريض على الآخر، ولم تعد تصنّفه بالعمل الإرهابي، عندما تعلّق الأمر ببلد أوروبي، واتضح أنه لا علاقة لتلك القيود بالسلام والاستقرار العالمي وإنما فُرضت من أجل تكبيل الشعوب القابعة تحت سطوتهم المستبدة أو الرازحة تحت نيران الاحتلال المدعوم من قبلهم ومنعها من الاستفادة من هذه المنابر الافتراضية في مجابهة الطغيان.
وها نحن بعد عقودٍ من الاستهلاك الإعلامي لمبادئ وقوانين الأمم المتحدة التي تجرّم تجنيد المدنيين وتصف التشكيلات العسكرية غير النظامية بالمليشيات، وتنظرُ لها دوماً بعين الارتياب وتضعها في خانة الشبهةَ ولا تتوانى عن وصفها بالإرهاب في كل محفل وعبر كل بوق دون مناقشةٍ لعدالة قضاياها التي تعمل لأجلها من عدمها! نرى أبواب التجنيد للمتطوعين المدنيين والعسكريين فُتّحت على مصارعها للقتال من أجل المبادئ التي يؤمنون بها! وأصبح الارتزاق تطوعا، والإرهاب كفاحا، والوحشيةّ شجاعة، والتحريض توجيها معنويا.
هذه الحرب ينبغي أن تُغيّر طريقة تفكير العالم وتعيد تعريف المصطلحات السياسية والإنسانية وتوسع نطاق مدلولاتها ليحتوي التناقض الذي تتطلبه المستجدات العالمية.