«بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ اسبينوزا وليكن مغضوباً وملعونا، نهارا وليلا، وفي نومه وصبحه، ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما، وأن لا يتحدث معه أحدا بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحدة، وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وأن لا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه.»
نص اللعنة هذا الذي أورده "ويل ديورانت" في كتابه (قصة الفلسفة) لم يصب على رأس شقي بل على فيلسوف يعتبر من أحد أقطاب التنوير العقلي في القرن السابع عشر.
وفي عام 399 قبل الميلاد تم تقديم شيخ يناهز السبعين عاماً إلى المحكمة في أثينا بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة، وتم الحكم عليه بالإعدام من أجل آراءه بجرعة سم الشوكران. كان هذا المجرم "سقراط" وصوتت الأكثرية في أثينا لإعدام ألمع دماغ في المجتمع. إن سقراط كان يرى أن هناك شيئاً واحداً فقط يمكن التأكد منه هو: (جهله) لأن من يعرف أنه جاهل يضع رجله في أول طريق المعرفة. وأن العلاقات الإنسانية يجب أن تقوم على عدم مكافحة الشر بالشر وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه. فأعدمته أثينا في أكبر حماقة تاريخية.
لوحة فنية عن "موت سقراط"- الفنان التشكيلي الفرنسي جاك لوى دافيد، 1787م.
وفي عام 1198م صدر قرار مشابه في حق دماغ إسلامي متألق هو "ابن رشد" ولم تشفع له شيخوخته أن يوضع تحت الإقامة الجبرية في قرية الليسانة اليهودية زيادة في الإذلال، ومازال (مطلوباً) على القائمة السوداء في العالم الإسلامي حتى اليوم ولم يستفيد منه بشيء.
وفي 17 فبراير عام 1600م افتتح القرن بحريق مروع ارتجفت منه مفاصل المفكرين في أوربا، عندما شوي المفكر الإيطالي (جيوردانو برونو) حياً في ساحة عامة على النار ذات الوقود.
وفي عام 1846 م في إيران لمعت امرأة هي (قرة العين)، وصفها عالم الاجتماع العراقي (الوردي) بالحسن الفائق والذكاء الحاد والشخصية القوية وفصاحة اللسان وقوة الحجة، وهي صفات قلما اجتمعت في بشر، وكانت نهايتها أن وضعت على فوهة مدفع فمزقتها الطلقة أشلاء وليس لها قبر، ويقول عنها (الوردي) في كتابه (موسوعة تاريخ العراق الحديث)، أنها كانت فلتة من العبقرية سبقت زمانها بمائة عام فلو ولدت في القرن العشرين لكان لها شأن.
وفي السودان أعدم محمود طه من أجل آرائه بيد الديكتاتورية العسكرية، ومرت الأيام فتم رد الاعتبار لسبينوزا، ونحت تمثال لسقراط يحدق بوداعة في حماقة التاريخ، واحتفل بذكرى ابن رشد في قرطبة، ونصب تمثال تذكاري لجيوردانو برونو في نفس الساحة التي شوي فيها حيا، فهذه أمثلة لمفكرين من أديان شتى تروي نفس المأساة في صراع الفكر مع القوة.
يقول الفيلسوف (نيتشه) عن الحقيقة:«لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفاً لآرائه، فإذا اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها. إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين. عليك أن تُصْلي نفسك كل يوم حرباً، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك».
كل ما في الكون يقوم على حقيقة تمسك بمفاصل الوجود من الحقيقة الفيزيائية إلى الدورة الفلكية، بين دورة الإلكترون والكوكب والعجلة، من دورة الماء في الطبيعة إلى دورة الحياة وأيام الدول وقيام المجتمعات ونهوض الحضارات، نحن لا نعلم بالضبط من اخترع العجلة، ولكنها التي استخدمها الهكسوس في سحق الفراعنة، والعجلة التي تدور على نفسها بحركتها الرتيبة حررت الإنسان من سجن المسافات، وطورت سرعات خرافية، الحركة الدائرية أصل في الوجود، تشكل جدلية بين الثبات والتطور، والجمود والحركة، والمحافظة والتغير.
وهكذا الدول والمجتمعات تمر بنفس الدورة التاريخية، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فتولد الدولة قوية ويتشكل المجتمع بفعل دينامي حيوي لينمو ثم يتباطىء ويتراجع ثم يتحلل ليسقط في النهاية في قبضة العدم. هكذا زالت الدول وطوى العدم أمما شتى هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
في (الفيزياء) تخضع الذرة لهذا القانون بين ثبات النواة النسبي ودوران الإلكترون، وتتغير طبيعة الماء في دائرة محكمة من التبخر إلى التجمع والتكثف في السماء إلى السقوط إلى الأرض في دورة عملاقة متكاملة. ويمسك هذا القانون الصارم دورة حياة النبات والحيوان والإنسان، في حركة قوسية محكمة بين الولادة والنمو فالنضج فالتحلل إلى الاستسلام والفناء، لتخرج من رماد الأموات حياة جديدة، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ).
إذا كان الإلكترون يدور ليصل إلى حيث بدأ، والأرض تدور لتعود إلى النقطة التي خرجت منها، وقطرة الماء تصعد خفيفة إلى الأفق لتعود سيرتها الأولى نقية أفضل مما خرجت، كذلك حياة النسل الجديد، فبقدر سحق الطبيعة للفرد بقدر محافظتها على النوع، والنسل الجديد يكرر وينقى ويتطور إلى الأفضل، وأولادنا ليسوا نسخة عنا بل هم نسخة أفضل منا، مما يعجز عنه أي جهاز، آلله خير أما يشركون؟
وإذا كان مصير الخلية في البدن يماثلها مصير الفرد في المجتمع، فإن نفس القانون ينطبق على مصير المجتمعات، وهكذا فالدول والمجتمعات تمر بنفس الدورة التاريخية، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فتولد الدولة قوية ويتشكل المجتمع بفعل دينامي حيوي لينمو ثم يتباطىء ويتراجع ثم يتحلل ليسقط في النهاية في قبضة العدم. هكذا زالت الدول وطوى العدم أمما شتى هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ ولكن كما تتحطم الخلايا على مدار الساعة كذلك تتحطم الدول والجماعات وتنشأ محلها مجموعات جديدة أعظم حيوية وآثارا، الشيخوخة تداهم البيولوجيا والتآكل يصيب البناء الهندسي والمجتمع يتعرض للفساد والانحلال كما يشرح ذلك القانون الثاني من الديناميكا الحرارية ولكن التاريخ يمضي نحو الأفضل والكون لم ينته بناؤه.