إن الحضارة تتكون من فكر وإنتاج، والقرآن الكريم بالنسبة لنا هو المصدر الرئيس للفكر، إضافة إلى السنة النبوية الصحيحة، ولقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم وتحدّى به كل البشر، في كل زمان ومكان، ولا يزال التحدي قائماً، بأن يأتوا بمثل القرآن الكريم، أو بعشر سور من مثله أو حتى بسورة واحدة) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء/88)
ولقد حوى القرآن الكريم كثيرًا من وجوه الإعجاز غير الإعجاز البياني واللغوي الذي تحدى الله تعالى به البشر جميعًا، مثل الإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، ومن تلك الوجوه إعجاز القرآن الكريم في كشف قوانين الحضارة.
القرآن يستعمل كلمة السنن للقوانين
تحدث القرآن الكريم عن القوانين التي تحكم حركة الحضارات، والقرآن لا يستعمل كلمة "قوانين" بل يستعمل كلمة "سنن" نحو قول الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران/137)
السنن جمع سنّة، والسنّة تعني القانون الثابت الذي لا يتغير، كما قال ربنا تبارك وتعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب/62)
فسنن الله تعالى ليست نظريات تحتمل الصواب والخطأ، بل هي صائبة صادقة ثابتة، وضعها اللطيف الخبير، الذي هو أعلم بما يصلح لخلقه.
نماذج من القوانين القرآنية
تتنوع السنن (القوانين) في القرآن الكريم، فمنها على سبيل المثال:
سنن كونية: تحكم حركة الكون، مثل قانون حركة النجوم والكواكب، وبعض قوانين الفيزياء والرياضيات.
سنن أخروية: ترتبط بالفلاح أو الخسران يوم القيامة، ومن ذلك قول الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فكل إنسان مسؤول عن تصرفاته، وكل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد يوم القيامة.
سنن تحكم علاقات الأمم بعضها ببعض، وسنن تحكم نشوء الحضارات ونهضتها وانهيارها وسقوطها، والسبيل إلى معرفة السنن الإلهية هو النظر العميق والتأمل الدقيق في آيات القرآن الكريم، والنظر المتدبّر فيما صحّ من أحاديث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
السنن قوانين مطردة
هذه السنن أو القوانين تأتي –أحيانًا- في القرآن الكريم تعقيباً على قصة حدثت في الماضي، خاصة قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، وأحياناً تأتي في نهاية آيات الأحكام والتشريعات، وربما جاءت بعد الحديث عن مصير الإنسان يوم القيامة، من باب التوجيه لما هو مطلوب منا في هذه الحياة الدنيا، وسنن الله تعالى تتسم بالثبات والاطراد والعموم، فهي تنطبق على كل الحضارات، أنّى وجدت، وفي أي زمان وأي مكان، كما أشار إلى ذلك الله تعالى في سورة الفتح: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23))
القوانين القرآنية للحضارات
قرأت القرآن الكريم آية آية، باحثًا عن القوانين القرآنية المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بمشروع التغيير الحضاري، ومن القوانين التي مررت بها: قانون التداول، قانون التدافع، قانون الغلبة والنصرة، وقانون التغيير.
كل قانون من هذه القوانين له أدلته الشرعية، من القرآن الكريم والسنة النبوية، وله تطبيقاته الواقعية، وسنطرح ها هنا بإذن الله تعالى فكراً إسلامياً أصيلاً، وأضم إليه فكراً علمياً دقيقاً، مستنداً إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة، كل ذلك بلغة سلسلة بسيطة يفهمها غالبية الناس، العامي منهم والمفكر
أولاً: قانون التداول
هذا القانون مستمد من قول الله تعالى في سورة آل عمران (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وقد نزلت هذه الآية تعقيباً على غزوة أحد، وما أصاب المسلمين فيها من أذى وجروح وقروح، مادية ونفسية.
ونستفيد نحن من هذا القانون أنْ لا خلود لحضارة أيًّا كانت، فمهما تعاظمت قوة حضارة ما وسيطرت على غيرها، فلا بد أن يأتي يوم تضعف فيه هذه السيطرة، بل وربما تندثر تلك الحضارة عن بكرة أبيها كأن لم تكن، لأن الأمر كما يصفه الله تعالى دُوْلَة ومعناها "تحوُّل الشيء من مكان إلى مكان، يقول أهل اللغة: انْدَالَ القومُ، إذا تحوَّلوا من مكان إلى مكان، ومن هذا الباب تداوَلَ القومُ الشّيءَ بينَهم: إذا صار ينتقل من بعضهم إلى بعض".
نظرية نهاية التاريخ
صاحب هذه النظرية هو "فرانسيس فوكوياما" وهو مفكر أمريكي الجنسية من أصول يابانية، وهي نظرية مناقضة لقانون التداول، فيرى "فوكوياما" أن الحضارات تطورت وبقيت تتطور، حتى وصلت إلى القمة المتمثلة في الحضارة الغربية، لأنها -من وجهة نظره– قامت على العلم والديمقراطية والمساواة، لذا فالحضارة الغربية ستسيطر على غيرها من الأمم والشعوب، وستبقى مسيطرة حتى نهاية التاريخ، والحضارة الغربية هي حسب رأيه "منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي لأي حكم إنساني" أي هي أقصى ما يمكن أن تصل إليه البشرية، ونظرته هذه تناقض قانون التداول الذي نطق به القرآن الكريم، ويؤمن به المسلمون.
نظرية صدام الحضارات
صاحب هذه النظرية هو "صامويل هنتنغتون" الذي يرى أن الصراعات في المستقبل "ستكون أكثر وأعنف ما يكون على أسس ثقافية حضارية (مثل الحضارات الغربية، الإسلامية، الصينية، الهندوكية..) بدلاً من الأسس العقائدية كما كان الحال خلال الحرب الباردة ومعظم القرن العشرين".
ولقد أثارت نظرية صدام الحضارات جدلاً واسعاً بين المفكرين، وانقسم الناس بين مؤيد لها، وبين معارض لها، فذهب بعض المفكرين إلى حتمية الصراع والصدام بين الحضارات، وأن هذا أمر لا مفرّ منه، بينما ذهب البعض الآخر إلى نفي وجود مثل هذا الصدام.
العلاقة بين الحضارات
أعتقد أن العلاقة بين الحضارات ليس لها شكل ثابت، بل تأخذ أشكالاً مختلفة ومتعددة منها:
1.علاقة صدام وصراع بين الحضارات: فهناك حضارة تنتصر وأخرى تنهزم، وتسعى الحضارة المنتصرة إلى إزالة بقايا الحضارة المنهزمة، وهذا أمر لا يمكن لعاقل أن ينكره، لكن التاريخ ليس مطرداً على هذه الشاكلة.
2.علاقة اندماج بين الحضارات: فهناك حضارات ضعيفة سيطرت عليها أخرى قوية، لكن الضعيفة لم تنتهِ، بل اندمجت في الحضارة الجديدة المنتصرة، وامتزجت ثقافتها وعاداتها وتقاليدها بثقافة وعادت وتقاليد الحضارة المنتصرة، ونتيجة لهذا الاندماج بين الحضارتين ينشأ شكل جديد من الحضارة.
3.علاقة حوار وتعايش بين الحضارات: وغالباً ما يحدث هذا التعايش عندما تكون موازين القوى متكافئة بين الحضارات، فلا تجرؤ حضارة على محاربة الأخرى أو النيل منها، ويكون التعايش هو الحل الأمثل بالنسبة للطرفين.
4.علاقة التنافس بين الحضارات: كالتنافس في المجالات التي ينتفع بها البشر، خاصة البحوث العلمية التي تعالج مشكلات الناس، ويبقى الأمر مُطَمْئناً طالما بقي التنافس بعيداً عن التسلّح وعن القدرات العسكرية، لأن هذا التنافس سينتهي غالباً إلى صراع وصدام.
5.علاقة التكامل بين الحضارات: وهذا من أرقى وأسمى أشكال العلاقة بين الحضارات، فكل حضارة بغض النظر عن قوتها أو ضعفها تقدم شيئاً لا تملكه الحضارات الأخرى، وهذا التكامل ينفع البشر جميعاً، وهو ما حدث في الحضارة الإسلامية، التي احترمت خصوصية الحضارات الأخرى، ولم تسعَ إلى إلغاء وجودها أو تهديد هويتها.
الإسلام هو الحضارة القادمة
غالبية المفكرين الواعين، من مسلمين وغير مسلمين، يؤكدون أن الإسلام سيكون الحضارة القادمة لهذه البشرية، ولست أنسى زيارتي لـ " ألمانيا " في العام 2010م، حيث التقيت هناك بمدير مركز (ASP) الذي يعتبر أهم مركز دراسات تعتمد عليه الحكومة الألمانية، وكان مديرها يتقن سبع لغات، منها اللغة العربية، فجرى بيني وبينه حوار موسع باللغة العربية حول مستقبل العالم العربي، فقلت له متسائلاً: ألا تعتقد أن المستقبل يقول بأن العالم العربي سيُحكم بالإسلام المعتدل؟
تبسم ثم همس في أذن شخص كان بجانبه، قام هذا الشخص وأحضر كتاباً مطبوعاً، كان عبارة عن دراسة أجراها المركز، وقدمها للحكومة الألمانية والبرلمان الألماني، وكان خلاصة الدراسة أن "المنطقة العربية ستُحكم بالإسلام المعتدل، لذا لا بد من التفاهم معهم من الآن".
مبشرات على طريق النهضة
جاءت نتيجة الدراسة التي أجراها مركز (ASP) الألماني متوافقة تماماً مع مبشرات النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، فلقد أخبرنا رسولنا الكريم أن الإسلام سيعود من جديد، وسيدخل كل بيت فقال: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)) رواه الإمام أحمد.
وقد بشّرنا النبي بأننا سنفتح "الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ (اسطنبول)" في تركيا، وسنفتح " رُومِيَّةُ (روما)" في إيطاليا، ونحن نؤمن بهذا البشارة، ولا نشك أنها ستتحقق، لذا لا نجد أحداً من الصحابة الذين سمعوا هذه البشارة قد سأل سؤال المتشكك، بل جلّ ما سألوه: يَاْ رَسُولُ اللَّهِ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ)، رواه أحمد. وهذا الذي حدث فعلاً فتم فتح اسطنبول، وسيقوى المسلمون بشكل عظيم حتى يتمكنوا من فتح روما في المستقبل.
ثانياً: قانون التدافع
على أساس هذا القانون واستناداً إليه يقع قانون التداول، وقانون التدافع مستمد من قول الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/251).
وقوله تعالى: (...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج/40)
والدفع في لغة العرب الإزالة بقوة، وخلاصة هذا القانون أن الله تعالى هيأ أسباب التدافع بين البشر، وبين الحضارات، ولولا هذا التدافع لانتهت القيم بين البشر، وسيطر الفساد على الأرض، وانتهت الأديان، ولهدّمت وأزيلت دور العبادة بكل أشكالها، المساجد والصوامع وغيرها.
يقول لنا قانون التدافع: إذا تراخى المؤمنون وضعفوا كانت الغلبة والسيطرة لأعدائهم، ولولا قانون التدافع لسيطرت الهمجية والوحشية على عالم البشرية، ولاحتكموا إلى قانون الغاب، حيث يأكل القوي الضعيف، ولولا التدافع لاختُطف الدين لتمثله زمرة من الأشخاص الذين باعوا دينهم وضمائرهم لحاكم مستبد، وفي نهاية التدافع " يكون الصلاح والخير والنماء.. ويكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه".
من صور التدافع
هناك صور للتدافع أجملها في الآتي:
1- الانحراف في طاعة الطغاة
وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً واضحاً للطاعة، فقال: ((لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) رواه مسلم
فلولا سنة التدافع المتمثلة في ثورات "الربيع العربي" لاستمر الاستبداد بالحكم، ولبقي الطغاة في عدة دول في مواقعهم يذلّون الناس، ويسلبونهم الكرامة والحرية وطيب العيش، لكن المؤمن المرتبط بالله تعالى، والحرّ صاحب المروءة يأبى أن يطيع إنساناً مثله في أمر يغضب الله تعالى، ورغم عودة الطغاة إلى سدة الحكم من جديد إلاّ أنه أمر مؤقت لا يمكن أن يستمر لتناقضه مع سنة التدافع.
2- التدافع بين الحق والباطل بالصراع المباشر
كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ومعاركه، حيث كانت مواجهة مباشر مع الباطل وأهله، مواجهة استخدمت فيها القوة المادية والمعنوية، وهذا التدافع بين الحق والباطل سنة حتمية من سنن الله تعالى الحاكمة في حياة البشر، فلا بد في كل زمان ومكان من صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، بين العدل والظلم.
3- التدافع بالتنافس الحضاري بين الأمم
وهذا التنافس إحدى حقائق التاريخ الثابتة، فكل أمة تسعى لأن تكون الأقوى، وكل حضارة تبذل ما لديها من قدرات وإمكانات لتبقى متفوقة ومتقدمة على غيرها من الحضارات المحيطة بها، ومع مرور الزمن وتغير الظروف، تتبدل معايير القوة، التي كانت في البداية مقتصرة على الأرض وما تحويه من موارد، أما في العصر الحديث فصار الفكر والمعلومات والعنصر البشري، قوة لا تقل أهمية عن الموارد الطبيعية بل تتفوق عليها.
ثالثًا: قانون الغلبة والنصرة
جاء دليل هذا القانون في القرآن الكريم في أكثر من موضع منها:
قول الله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة/21)
وقوله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/40)
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/7)
وقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/55)
حالات الغلبة والنصرة
الحالة الأولى: إذا التزم المسلمون بالحق وأخذوا بأسباب النصر المادية، من حيث العدد والعدة، فالغلبة لهم بإذن الله تعالى.
الحالة الثانية: إذا التزم المسلمون بالحق ولم يأخذوا بأسباب النصر المادية، فالغلبة والنصر تكون للأقوى مادياً من الطرفين.
الحالة الثالثة: إذا التزم المسلمون بالحق، ولكن عددهم قليل لا يكافئ أعداءهم، وفي مثل هذه الحالة يقول الله تعالى (...فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/66)
أي إذا كان عددكم يساوي نصف عدد عدوكم فعليكم الجهاد ومواجهة العدو، بعد الأخذ بأسباب النصر، وسيكون النصر حليفكم بإذن الله تعالى، وإن كان عددهم أقل من النصف فعليهم الصبر حتى يصلوا إلى ذلك المستوى.
الحالة الرابعة: إذا ترك المسلمون الحق، وتخلوا عن دينهم، واتبعوا الشرق والغرب، وركنوا إلى الأسباب المادية، ففي مثل هذه الحالة سيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم، وستكون الغلبة للأقوى من الناحية المادية.
رابعاً: قانون التغيير
وقد أشار القرآن الكريم إلى نوعين من التغيير، سلبي وإيجابي:
النوع الأول: التغيير الإيجابي
ودليله من القرآن الكريم قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11)
والحديث في هذه الآية عن قوم أحوالهم سيئة، وتخبر أن هذه الأحوال السيئة لن تتبدل ولن تتغير، ولن تتحسن، مالم يتغير الناس نحو الأفضل، لأن الله تعالى" لا يغيّر نعمة أو بؤساً، ولا يغيّر عزاً أو ذلة، ولا يغيّر مكانة أو مهانة.. إلا أن يغيّر الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله تعالى ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله تعالى يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم".
والدعاء وحده لن يغيّر من أحوال الأمة، بل لا بد أن نضيف إلى الدعاء عملاً وجهداً، وأن ننطلق في أعمالنا من خطة واعية، ومنهجية واضحة، وأهداف محددة قابلة للقياس، وبغير ذلك لن تقوم للأمة قائمة.
النوع الثاني: التغيير السلبي
ودليله من القرآن الكريم قول الله تعالى: (ذَلِكَ بأَن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وأَنّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/53)
تتحدث هذه الآية عن قوم أنعم الله تعالى عليه بالنعم العظيمة، والآلاء الجسيمة، فهو يذكرهم بأن هذه النعم لن تزول إلا إذا خالفتم منهج الله تعالى، وتنكبتم طريقه المستقيم، ومع أن الله تعالى قادر على تبديل أحوال الناس، فأمره بين الكاف والنون، ولكن ترك التغيير والتبديل نحو الأفضل أو الأسوأ للجهد البشري.
ومن نافلة القول أن التـغيير من حال لحال يبدأ أولاً من الإنسان نفسه، والدليل على التغيير الإيجابي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد/17)
والدليل على التغيير السلبي قوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( الصف/5)