الهويَّة لأيِّ شريحةٍ ممَّن يعيش على وجه هذه البسيطة مرآة تعكس النضوج الفكري، وامتلاك العدَّاد الجغرافي لمعرفة اتجَّاه السير، بعد التأمل في صفحات التاريخ، والاستفادة منها على الوجه الذي ينبغي.
كما أنَّ الخطاب الفكري الذي يصوغ أطروحات من نعتوا أنفسهم بالحداثيين يستمدُّ جذوره من الانقلاب على الذات، والتنكر لثوابت الأمَّة وجذورها التاريخية، والسقوط في دهاليز الانهزامية، ثم يتبع ذلك سعيٌ حثيثٌ دؤوبٌ لتذويب هويَّة المجتمع المسلم، وتغيير بنيته العقَديَة.
بنسيان ذاتيتنا الإسلامية أضحت ذاكرتنا عقيمة، وبفقداننا الهوية وجدنا أنفسنا في ساحة غير ساحتنا، وقد أعطينا ولائنا لجهة غريبة عن بيئتنا العقدية والفكرية!
الهوية هي الجسم المناعيُّ ضدَّ كلَّ دخيل في ثناياه الموت المحقق، وفي حال فقد الفرد المسلم هذا الجهاز المناعيَّ الذي يمثِّل مركز الدفاع الأول والثاني والأخير في البنية الروحية والفكرية له، كان عرضة للمشي خلف كلِّ ناعق، ولو كان الأخير شبَه الغراب!. عن عليّ رضي الله عنه قال:" الناس ثلاثة: عالمٌ ربانيٌّ، ومتعلِّم على سبيل نجاة، والباقي رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق ".
وبعد إحساس الأمَّة بالهزيمة النفسية والفكرية لا بدَّ من العودة إلى منظومة ثوابتنا؛ قبل أن تجرفنا عواصف الغربة عن قيمنا، ونصبح في عدَاد الأمم المنسية كما حدث مع شعب المايا، أو نكون قريبين من ذلك كما حدث مع الهنود الحمر.
ولأنَّ أعدائنا أدركوا أهمية هذا الجسم المناعيَّ فأمسوا لا تكتحل لهم عين، ولا يرقأ لهم جفنٌ، حتى شرعوا ووفق دراسةٍ ممنهجةٍ وتخطيطٍ لا يمكن أن نغضَّ الطرف عنه، بغية النيل من كيانه وفاعليته؛ ومنه ما ورد في وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس، هي عبارةٌ عن رسالةٍ كان قد أرسلها لويس التاسع ملك فرنسا عندما أُسِرَ في دار ابن لقمان بالمنصورة في مصر خلال فترة الحروب الصليبية؛ حيث يقول في هذه الرسالة الآتي:" إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حربٍ، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة بإتباع الآتي:
أ- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليُعمَل على توسيع شقَّتها ما أمكن، حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.
ب- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح.
ج- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة.
د- الحيلولة دون قيام جيشٍ مؤمنٍ بحقِّ وطنه عليه يضحِّي في سبيل مبادئه.
هـ - العمل على الحيلولة دون قيام وحدةٍ عربيةٍ في المنطقة.
و- العمل على قيام دولةٍ غربيةٍ في المنطقة العربية تمتدُّ ما بين غزة جنوباً أنطاكية شمالاً، ثم تتجِّه شرقاً، وتمتدُّ حتى تصل إلى الغرب".
والقارئ للتاريخ المعاصر يدرك إلى ما آل إليه الواقع الصعب، وإلى استباحة أحفاد القردة والخنازير، ومن نهج نهجهم لحرمات المسلمين، حتى أصبح لنا في كلِّ بلدٍ نائحة! وبعد إحساس الأمَّة بالهزيمة النفسية والفكرية لا بدَّ من العودة إلى منظومة ثوابتنا؛ قبل أن تجرفنا عواصف الغربة عن قيمنا، ونصبح في عدَاد الأمم المنسية كما حدث مع شعب المايا، أو نكون قريبين من ذلك كما حدث مع الهنود الحمر.
ثم أعود وأؤكد من جديد على ضرورة العمل من أجل إحياء فكرة إعادة الوظيفة الاجتماعية لمنهجنا القويم، وذلك بعد طول غياب، وهو مشروعٌ فكريٌّ تكمن في جوانبه مراجعةٌ جذريةٌ لغياب ثوابت الأمَّة التي أصابها التصدُّع؛ نتَجَ عنه جوٌ من الرعونة، وفقدانٌ للهويَّة، ونسيانٌ وأحياناً نكرانٌ للذات، ممَّا اضطرنا إلى دفع ضريبةٍ قاسيةٍ هي ضريبة الذل، ضريبة العبودية لغير الله!