في إطار فعاليات اليوم الأول من الملتقى الفكري رمضان الإسلام والذي يأتي بعنوان "حضارة انتصار الروح"، استضاف عمران الحضارة الدكتور زهدي عاديلوفيتش من البوسنة والذي شارك بمداخلة عنوانها "سمو الروح وحرية الإرادة.. فيما تختلف رؤية بيجوفيتش للصيام؟" وذلك يوم 08 أبريل 2021. تقرؤون فيما يلي نص المداخلة كاملا.
تاريخ الإسلام في البوسنة.. إقبال على الدين وتعرض للاستئصال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أحيي الأخوة الأفاضل العلماء الذين يشاركون في هذا الملتقى المبارك وأحيي السامعين جميعا بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحديث عن المفكر الإسلامي الرئيس علي عزت بيجوفيتش رحمه الله، حديث مليئ بالعبر والعظات والحقيقة هذه الشخصية نشأت في ظروف تاريخية معينة أبرزته وجعلته في هذه المكانة، ولكي نفهم ظهور هذه الشخصية لابد أن نرجع إلى التاريخ قليلا وقصة البوسنة والهرسك قصة كذلك عجيبة ومليئة بالعبر والعظات، فأهل البوسنة والهرسك قبل الإسلام كانوا أتباع الديانة المسيحية أو جزءا منها، كانوا يدّعون أنهم على النصرانية الصحيحة قبل التحريف كانوا يسمونهم "Bogomil" يعني أحباء الله أو بهذه الترجمة الحرفية باللغة العربية وهم ينتمون أو نحن البوسنة ننتمي إلى الشعب الصقالبة والصقالبة في المصادر العربية مشهورة ومعروفة، وتجدون أوصافهم في المصادر التاريخية التي تتحدث عنهم، بما أنهم كانوا يدعون أنهم على النصرانية الصحيحة قبل التحريف وكانوا يرفضون التثليث والصلبان وكل ما تعلقت بها الكنيسة النصرانية سواء الشرقية الأرثوذكسية أو الغربية الكاثوليكية وهم في جزيرة البلقان والبوسنة في وسط جزيرة البلقان من جانبها الشرقي صربيا كانوا أرثوذكس ومن جانبها الغربي كرواتيا كانوا كاثوليك. فبدأ الصراع على البوسنة من ذلك الوقت لأن النصارى اعتبروا البشانقة أو البوسنة هراطقة مرتدين عن الديانة النصرانية لأنهم رفضوا الدخول وقبول الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، وإنما كانوا يستقلون بالكنيسة الخاصة بهم وكانوا يطاردونهم ويضهطدونهم ويجبرونهم على التنصير وعلى قبول الارثوذكسية أو الكاثوليكية.
فهم كانوا في هذا الصراع للحفاظ على أنفسهم إذ كانوا يستوطنون الجبال ويحمون أنفسهم بالمرتفعات التي تكثر في البوسنة والهرسك لأن وصول الأعداء إليها صعب ويكون الدفاع أسهل، حينها ظهر وجاء الإسلام إلى شبه جزيرة البلقان في القرن التاسع الهجري وتعرف أهل البوسنة على مبادئه ووجدوه قريبا من معتقدهم.
يعني هم كانوا يوحدون وهناك المصادر التاريخية القليلة التي تتحدث عن هؤلاء البشانقة قبل الإسلام تقول كانت صلواتهم خمس مرات، فمن هذا بعض المؤرخين يرون أن هناك إمكانية كبيرة أنهم تأثروا بالإسلام قبل وصوله رسميا إلى هذه المناطق والمهم حينما تعرفوا على مبادئ الإسلام وجدوا فيه دينهم ولذلك اعتنقوه ووافق معتقدهم وأصبحوا يدخلون في دين الله أفواجا وهذا الذي حصل في البوسنة في ذلك الزمن وهذا السر للوجود الإسلامي في أوروبا وفي البلقان والبوسنة بالذات.
نحن أكثرية في البوسنة إلى اليوم بخلاف صربيا التي فيها المسلمون أقل نسبة بكثير وبعدها بلغاريا ليس فيها مسلمين إلا قلة وهم جالية تركية وتترية ثم تركيا، فيعني شرق تركيا تجد بلغاريا وصربيا بلا وجود إسلامي كبير ثم مرة واحدة في وسط شبه جزيرة البلقان تجد نسبة المسلمين كبيرة إلى هذه الدرجة. نحن الآن في إحصائية رسمية 51% وإن كانت الأعداد الحقيقية أكبر من هذا.
فهذا السر لأن المسلمين البشناق في ذلك الوقت اعتنقوا الدين الإسلامي طواعية ووجدوا فيه مبتغاهم من الناحية الدينية، وأيضا بعدما أصبحوا جزءا من الدولة العثمانية الإسلامية استطاعوا أن يدافعوا عن أنفسهم من هؤلاء الأعداء من الشرق والغرب ودليل دخولهم إلى الإسلام عن رضا النفس، أنهم بعد فترة وجيزة أصبحوا أقوى أنصار الدولة العثمانية الإسلامية وظلوا فيها بعد ما كانوا يسكنون الجبال ولم يشيدوا المدن والمعابد وغيرها، في العهد الإسلامي في عهد الإستقرار واستمر 500 سنة نزلوا إلى الوديان وشيدوا المدن، والمدن في البوسنة هي على طراز المدن العثمانية فسراييفو يسمونها اسطنبول مصغرة وبهذه المآذن العثمانية الرفيعة والمساجد المقببة والأسواق الشرفية أصبحت البوسنة جزءا لا يتجزأ عن العالم الإسلامي آنذاك، فكما قلت لكم أصبح البوسنيون من أقوى أنصار الدولة العثمانية الإسلامية ووصل عدد كبير منهم إلى مناصب العليا في الجيش والقيادة وفي السلك الديني حتى تولى عدد من البوسنيين رئاسة المشيخة عندهم.
من ناحية أخرى أصبح هناك علماء من المسلمين البوسنيين وصلوا إلى الحرم المكي والمدني وكان عدد منهم لهم دروس أسبوعية في الحرمين الشريفين. كذلك أنشئت المكتبات والمدارس وأصبحت تعنى بالحضارة، فكثير من البوسنة درسوا في مجال التأليف ويكفيكم أن تتصفحوا كتب التراث الإسلامي أو الفهرسة وتبحثوا عن البوسنيين ستجدون عدد كبير منهم.
وهناك كتاب لعالم بوسني الشيخ محمد الخانجي اسمه "الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة" ذكر فيه أكثر من 200 عالم بوسنوي له مؤلفات بغير العربية، فأقول عشنا فترة الازدهار والاستقرار وكان هناك في ذلك الوقت لا أحد يسمى عالما إلا إذا كتب شعره باللغات الثلاث باللغة العربية التي كانت لغة العلم آنذاك واللغة التركية كانت لغة الإدارة واللغة الفارسية كانت لغة الشعر. كذلك القوات في الجيش كان منهم عدد كبير جدا من البوسنيين ولهم دور كبير جدا في إدارة الجيوش، تولى عدد منهم منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية آنذاك بعد هذا الازدهار وهذه الحضارة والثقافة التي نشرها الإسلام في هذه الربوع.
وتقدم المسلمون على غيرهم في المنطقة كما كان قبلهم تقريبا 500 سنة الأندلس الإسلامي والإسهامات التي أسهم بها في ازدهار الغرب. كذلك في شرق أوروبا جاء الإسلام بحضارته لكي يعزز تلك الإسهامات من جديد. وبعد 500 سنة من الحكم الإسلامي فوجئ العالم الإسلامي بأكمله بسقوط الخلافة الإسلامية في تلك الفاجعة الكبيرة التي أصابت أطراف العالم الإسلامي ونحن من الأطراف كانت البوسنة دائما الحد الفاصل بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، فترة من التاريخ كنا آخر نقطة اتجاه الغرب ثم تحولنا بعد سقوط الخلافة وانضمام البوسنة إلى مملكة المجر والنمسا آنذاك أصبحنا آخر نقطة غربية تجاه الشرق.
هذا التحول الكبير وزوال الحكم الإسلامي جعل كل من استطاع من المسلمين أن يهاجر من البوسنة بسبب عدم تحمل ذلك الوضع الجديد وحكم غير المسلمين فهاجر عدد كبير منهم أكثرهم من تركيا ووصلوا إلى مختلف مناطق العالم الإسلامي منهم البشناق في مكة وفي لبنان وفي سوريا وفي كثير من دول العالم الإسلامي. لكن بقيت باقية منهم واستطاعوا أن يتأقلموا مع الظروف الجديدة وطبعا شاهدوا تلك الويلات ومحاولات تصفية الوجود الإسلامي من أوروبا لأن إلى اليوم نسمع هذه النداءات يقول قادة الغرب أن قارة أوروبا هي قارة النصارى والنصرانية ولا يجوز فيها البقاء للإسلام والمسلمين.
من هنا مشكلة البوسنة أو المسلمين في البوسنة لأنها دولة في أوروبا وأكثرها مسلمون، فجاءت الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الأولى قتل فيها 4 مليون مسلم وبين الحربين، وكانت الخطة واضحة وهو استئصال الوجود الإسلامي من هذه المنطقة، وجاءت الحرب العالمية الثانية كذلك وحدثت فيها مذابح أيضا للمسلمين وهجرات كبيرة في البوسنة وتمركز المسلمين في وسط الدولة والأطراف من جهة الشرق الصربي ومن جهة الغرب الكروات.
في هذه الويلات التي عاشها المسلمون في البوسنة والهرسك بقي علماء حقيقيون لم يهاجروا وحرصوا على الحفاظ على الهوية الإسلامية في تلك المناطق، وفي فترة الحرب العالمية الثانية كانوا يدرسون في البداية في اسطنبول ثم في المراكز المختلفة للعلم والعلوم الإسلامية في العالم الإسلامي منها الأزهر في مصر ومنها الزيتونة ودمشق وبغداد قديما وهكذا، في الحرب العالمية الثانية بسبب الإبادة الجماعية الكبيرة التي قام بها الصرب بالدرجة الأولى أو الكروات على المسلمين كما قلت لكم صار هناك هجرة كبيرة من الأطراف من الحدود الشرقية والغربية من البوسنة إلى الوسط.
المفكر المجدد بيجوفيتش.. لماذا اعتبر الإسلام الفكرة الوحيدة التي تستحق التضحية لأجلها؟
فمن هنا نأتي إلى الحديث عن الرئيس علي ومجموعة من الشباب الذين كانوا في سراييفو العاصمة وسط البوسنة يستقبلون المهاجرين من شرق البوسنة الذين نجوا من هذه المذابح ومن هذه المطاردة فأنشؤوا جمعية أسموها "جمعية الشبان المسلمين" فهم كانوا فعلا شبابا مسلمين وكان الهدف إيواء هؤلاء المهاجرين ومساعدتهم لكن بهدف تذكيرهم بهويتهم الإسلامية وأن يحافظوا عليها وألا ينسوها وقّدموا لهم المساعدات والدعم كمسلمين وقالوا لهم نحن ندعمكم لأن الإسلام يأمرنا بهذا ونحن نعتني بكم، والرئيس علي كان يومها أثناء الحرب العالمية الثانية شابا، وكما قلت لكم أنشأ مجموعة من الشباب جمعية الشبان المسلمين وهذه الجمعية كان لها النشاط الخيري، لكن بعد الحرب العالمية الثانية وقيام النظام الشيوعي أصبحت لهذه الجمعية جهود فكرية واجتماعية أخرى، كانت تبين للجماهير خطورة الفكر الشيوعي الإلحادي وخاصة على المسلمين، فمن هنا بدأت الحكومة الشيوعية الوليدة الحديثة التي كانت تخشى من المعارضة.
وكما تعرفون في الأنظمة الاشتراكية الشرقية كانت هناك معارضة غير مرغوب فيها، فهنا برز الرئيس علي كقائد تلك المجموعة ومحاولة الإجابة على السؤال لماذا هذا الضغط على المسلمين؟ لماذا كل هذه المؤامرة على المسلمين؟ وأنشؤوا مجلة باسم هذه الجمعية سموها "المجاهد" فهذا كان السبب المباشر لمحاكمة الرئيس علي ومجموعة معه، وحاكمه النظام الشيوعي آنذاك ودخل السجن من سنة 1946 إلى 1949 يعني ثلاث سنوات ونصف قضاها وهو في السجن بدأ يفكر في حالة الأمة وهذا السؤال كان دائما يطارده لماذا يضطهد المسلمون؟ لماذا هذا الهجوم على المسلمين في البوسنة؟ ولكن في العالم الإسلامي عموما وإسقاط الخلافة وهذه العوامل التي جعلته يفكر كيف نعيد للإسلام مكانته؟ كيف نوحد الأمة من جديد؟ كيف نوعي الجيل القادم بهذا الحقائق؟ وبدأ يكتب في هذا وكتب كتابه الأول هو "بيان العمل الإسلامي" هو الحقيقة البيان الإسلامي لكن المترجمون إلى اللغة العربية أحسنوا ترجمته ببيان العمل الإسلامي وهو كتيب صغير من 40 صفحة كتب فيها الرئيس علي عزت بيجوفيتش عن كيفية توحيد جهود المسلمين وتوحيد مناطق العالم الإسلامي ورجوعها إلى المسرح العالمي.
وهكذا فهو كتب هذا الكتاب وذكر فيه أن فكرة الإسلام هي الفكرة الوحيدة التي تستحق أن يضحي لأجلها، وكتب أن الإسلام هو الحل وأنه لا يجدي أي مشروع آخر مع المسلمين إلا المشروع الإسلامي، وذكر فيه بصراحة أنه يرى أن المخرج من هذه الأزمات إقامة الحكم الإسلامي في الدول التي يعيش فيها المسلمون كأكثرية يعني دون دعوة للثورات والحروب وغيرها، إنما من طبيعة الحال إن البلد الذي يعيش فيه المسلمون كأكثرية يحكمه الإسلام. وبعدما خرج من السجن الرئيس علي نشط من جديد والتقى بأعضاء هذه الجمعية وكشف أنهم مازالوا ينشطون وما زال لهم دور لكن هذه الجمعية كانت تحت مراقبة حكومة النظام الشيوعي آنذاك، وبدأ يكتب وينشط في الجريدة الإسلامية، والمشيخة الإسلامية التي أنشئت في ذلك الوقت الجريدة الرسمية، كانت تسمى "البعث الإسلامي" والبعث ليس البعث المعروف باللغة العربية كحزب البعث وغيرها، وإنما كان يقصد بكلمة البعث المنهجية الإسلامية وهكذا فكانت كتاباته ملفتة للأنظار.
كان يطرح الإسلام بشكل جديد، كان يعارض تحويل الالتزام إلى عادة، وكان يدعو إلى ضرورة قراءة القرآن بالتدبر والعودة إلى القرآن مباشرة وإلى الحديث وإلى أصول الإسلام ومن التحرر عن تلك الأفكار التي دخلت عن طريق الكتب الإسلامية فهو يعتبر مجددا ويعتبر شخصا اقتنع بالإسلام تماما وأيقن أن الإسلام هو الحل ولم يستسلم للواقع الذي هو غير هذا تماما.
وكيف يكون الإسلام هو الحل وهو الحق وفيه الإجابة على كل سؤال والمسلمون في هذا الحال! لو تفكر فقط في حال الأمة اليوم شيئا يبشر، لكن حينما تقرأ في القرآن وحينما تقرأ في الإسلام والفكر الإسلامي هو الذي يسبق غيره من الأفكار ويؤتي الإجابة على كل سؤال، وهو فعلا الهدى للبشرية جمعاء، فقام هو بتوضيح ونقل هذا الفكر والشعور والاعتزاز بالإسلام والاعتقاد بأن الإسلام هو أحسن نظام يمكن يطبقه الإنسان في حياته للفرد أو للمجتمع أو حتى الدول أو الحضارة العالمية.
في محاولته لبيان استعلاء الفكر الإسلامي كتب كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، هذا الكتاب المعني به في هذا العنوان ليس الشرق الإسلامي، إنما الشرق الإلحادي الشيوعي البعيد والغرب المادي. فهو في هذا الكتاب يريد أن يقول كما أن موقع الإسلام أو العالم الإسلامي الوسطي بين الشرق البعيد والغرب كذلك الفكر الإسلامي هو الوسط بين الطرفين فهو ينتقد الاشتراكية والأنظمة الشرقية، كما ينتقد الحضارة الغربية المادية التي طغت على الحضارة الغربية، وفي كتابه هذا حقيقة الرجل أبدى عمقه في فهم الحضارة الغربية، وأنا درست في الرياض وأحد أساتذتنا وهو من السودان لا يحضرني اسمه الآن قال يومها أنه يرى كتابات الرئيس علي أقوى نقد للحضارة الغربية وبسبب أنه ابن الحضارة الغربية وعرفها وخبرها من الداخل وعاشها وطبعا قرأ فلسفتها هو فهمها أكثر من غيره من المسلمين الذين ليسوا أوروبيين، لذلك تمكن من نقدها بهذا الشكل الكبير.
ومن هنا قيمة هذا الكتاب، مثلا يفرق بين الحضارة والثقافة فيقول: الحضارة هي العلم والتكنولوجيا والثقافة هي الدين والفن فالأولى تهتم بالبقاء الإنساني يعني تجيب على سؤال كيف يعيش؟ والثانية تعتني بوجود الإنسان بطموحاته وتجيب على سؤال لماذا أعيش؟ فهو يبين أن حضارة الشرق الإلحادية انحرفت عن الإنسانية الحقة التي لأجلها خلق الإنسان كما فعلت الحضارة الغربية المادية.
كذلك فالإسلام هو الوسط ويجمع كل ما هو إيجابي في الشرق والغرب ويجعله في قالب خاص، وطبعا على هدى من الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ففي هذا الكتاب يظهر النظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام الاجتماعي ويذكر الذكاة والتكافؤ الاجتماعي وهذه النواحي هي الحلول التي يحتاج إليها العالم اليوم، وهي التي ستؤدي إلى نهاية هذه الأزمات التي يعاني منها الإنسان المعاصر.
الرئيس بيجوفيتش.. المسلم الفقيه بواقعه الواعي بحاجات أمته
بسبب هذه النشاطات والتحركات سُجن وحكم مرة أخرى سنة 1983 بأربعة عشر سنة سجن ولكن قضى فيها 6 سنوات في السجن فعلا، وفي هذه الفترة الثانية في السجن كتب مقالات مهمة وعالية جدا بعنوان "هروبي إلى الحرية" يتخيل لو قام هناك نظام إسلامي حق كيف يكون فيكتب بالتفاصيل في هذه الكتابات. هو يذكر مثلا الصيام كمدرسة حياتية، المدرسة التي تعلم الإنسان إنسانيته. وكذلك الثورة الإيرانية الإسلامية كانت ضربة كبيرة جدا للنظريات الاجتماعية الغربية والمفكرين الغربيين وإن هناك أسئلة علمية لم يعرف الإنسان الإجابة عنها فبعدما تقدم العلم وعرفنا الإجابة عنها ليس هناك داعي للعلم ثم يحدث أنه قامت دولة معاصرة في القرن العشرين على أسس دينية هذه كانت صاعقة كبرى لهذا الفكر الغربي، وتحققت تنبؤات الرئيس علي أنه يمكن إرجاع أو يمكن إقامة هذا النظام من جديد. طبعا الرئيس علي في كتاباته كان دائما يدعو إلى الله الجوهر، كان ينتقد بعض المعتقدات الصوفية والاتجاهات التي كانت لا تنطبق على الواقع ولا فائدة منها في الوقت الحالي.
ثم وهو في السجن بدأ النظام الشيوعي يتشقق ويسقط فأصبح يفكر في كيفية تنظيم المسلمين وجمع كلمتهم لتحريرهم من القيود التي كانوا يعيشونها والضغوط التي فرضت عليهم من سقوط الخلافة إلى اليوم. فعلا بعدها خرج من السجن ونجح في تأسيس حزب وبعد ذلك أصبح رئيس الدولة، يعني من السجن إلى كرسي الرئاسة عكس كثير من حكامنا اليوم من الحكم ومن كرسي الرئاسة إلى أن انتهوا في السجن.
فحينما نأتي إلى الأمة وندرس فكرة هذا الرجل وإنجازه الفكري فضلا عن السياسي، أذكر بعض الأخوة الذين التقيت بهم في الخارج خاصة في العالم الإسلامي كيف كانوا يشعرون حينما يرون ويشاهدون الرئيس علي وهو رئيس مسلم ومعروف بأنه مفكر إسلامي ورئيس الدولة وأوروبي، فحينما يظهر في التلفاز كنا نشعر بعزة الإسلام ونشعر بالأمل الجديد بأنه يمكن للمسلم أن يكون حاكما ومفكرا في نفس الوقت وهو مسلم ملتزم يصارح بالأفكار الإسلامية، فهو مثلا من كلماته التي ألقاها في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي أقيم في طهران في 1997، قال: نعم الإسلام هو الأعلى لكن للأسف المسلمون اليوم ليسوا كذلك. فدعا إلى الإصلاح علنا في اجتماعات رسمية بصفته رئيس الدولة.
في النهاية أستطيع أن أقول أن الرئيس علي مثال للمسلم الواعي لدينه ولعصره الذي عاصر ظروفا جعلته لا يفوت الفرصة التي أتيحت له وقالها بكل وضوح: هذه الفرصة التي تهيأت بسقوط النظام الشيوعي في يوغوسلافيا السابقة فرصة لن تتكرر. فهو عاش تلك الفترة الحرجة واستطاع أن يتحرك تحركا صحيحا ويتخذ قرارات سليمة ويتقبله المسلمون كزعيم ليس فقط سياسي وإنما زعيم قومي وديني، قال عنه أحد المفكرين الأتراك المعاصرين: هو إقبال الغرب كما كان محمد إقبال رحمه الله الباكستاني هو صاحب فكرة انفصال باكستان وإنشاء الجمهورية الإسلامية في بداية القرن العشرين. كذلك كان الرئيس علي عزت بيجوفيتش في نهاية هذا القرن وأسهم هذا الإسهام.
أنا أقول من أكبر الدروس التي نستفيد منها في دراسة سيرة الرئيس علي عزت بيجوفيتش رحمه الله عليه هو كتاباته عن الإسلام وإن الإسلام هو الحل وعن الخلافة الإسلامية وعن توحيد العالم الإسلامي وعن النظام الإسلامي كنظام الأمثل، ولكنه حينما خرج من السجن وأنشأ حزبا سياسيا تحرك في ضوء الظروف المواتية وأمامه هدف كبير وهو تنظيم المسلمين ومساعدتهم للحصول على حقوقهم كغيرهم من الشعوب، وفي هذه المنطقة والدولة فالرئيس علي حينما أنشأ الحزب لم يسميه حزب الإسلام كان واعيا أن البيئة المحيطة لن تسمح بمثل هذا الحزب صحيح الحرية هي مقصد من المقاصد التي كان يذكرها الرئيس علي وكان يقول إن الحرية هي شرط كل تحرك وكل مشروع ونجاح أي فكرة، فمن هنا سمى الحزب بحزب العمل الديمقراطي، كذلك الرئيس علي لأنه مسلم واستقى تعليماته من الإسلام. ومن الغريب بعدما صار حاكم البوسنة لم يفصل من كانوا في المخابرات والأجهزة الحكومية ولم يحاكم أحد منهم، فكان رجلا يدرك الواقع وكان يرتب المصالح وكان دائما يضع المصلحة العامة ويقدمها على المصلحة الخاصة والمصالح الشخصية.
البوسنيون أو البشناق هم الأكثرية في البوسنة والهرسك وهوية البشناق مرتبطة بالإسلام مثلا تجدون الآن الدول الغربية النصرانية في شعوب الدول الغربية إلى اليوم نسبة الملتزمين من تعليم النصرانية عندهم قليلة جدا، النصرانية لا معنى لها في حياتهم اليومية، لكن تجدون في أعلام أغلب الدول الأوروبية صليب وتجد رمز النصرانية لماذا هم الماديون والدين لا يهمهم، أي الروحانية عموما ما كانت عندهم! يعني هويتهم نصرانية مهما كان فَهُم لا يمكن أن يتنازلوا عنها، لو تخلوا عن نصرانيتهم يصبحون لا شيء.
هكذا المسلمون في البوسنة مهما ضعف الإلتزام ومهما فعل النظام الشيوعي أن يبعدهم عن الإسلام وأن يمنع التعليم الديني، كانوا يعودون إلى الدين. 50 أو 45 سنة من الشيوعية والحرص الشديد من الحكومة على إبعادهم عن الإسلام لم تثمر ولم تنجح بمجرد أن سقطت الشيوعية عبّروا عن هويتهم الحقيقية وصرخوا بأعلى صوتهم نحن المسلمون وظهر النشيد الإسلامي وظهرت هناك كتب إسلامية ومقالات وغيرها بمجرد ما جاءت الحرية.
فكل هذه العوامل ساهمت في بروز الرئيس علي أو قبوله من هذه الجماهير بهذا الشكل ومكنته من الفوز في الانتخابات الحرة الديمقراطية الأولى ويوم سقطت الشيوعية وأنشأ هذا الحزب كان هو الحزب الوحيد للمسلمين، لم تكن هناك أحزاب سياسية أخرى أبدا هو وحده كان من المسلمين، بخلاف الآن مثلا تجد عشرات الأحزاب السياسية وتَفَرق كلمة المسلمين، وتجد الصراع مازال قائما لكن الرئيس علي عاش في تلك الفترة التي مكنته من استغلال تلك الظروف.
رمضان في البوسنة.. بين الماضي والحاضر
الرئيس علي وهو في مبنى الرئاسة وحوله السكرتير والموظفين منهم المسلمون وغير المسلمين وإذا جاء رمضان الكل يعلم أنه يصوم، ولكن في مكتبه في عمله الرئاسي هناك في قصر الرئاسة من المسلمين من لا يصوم والغريب في الأمر أن أحدهم كان يحدثني وكان يعمل معه وهو غير صائم فكان يتمنى أو يرغب بأن يسمع منه كلمة تحفزه وتشجعه أو يقول لماذا لا تصوم؟ لكن يقول لم ينطق بكلمة واحدة، لكي لا يكون استغلال لمنصبه كرئيس الدولة على من يتبعه من الموظفين فيكون هناك نوع من الضغط على أداة فريضة الإسلام وهكذا، إنما كان يبني ويتصرف بطريقة أنه يُرغب الذين حوله في الإسلام من حيث يقدمون عليه وعلى هذا الفعل بأنفسهم من ذاتهم ليس برجائه أو بفرض منه. كان إذا دخل المكتب الرئاسي الذي يتواجد فيه مسلمون وغير مسلمين، دائما يسلم بطريقة غير إسلامية يقول مثلا نهاركم سعيد ولا يقول السلام عليكم، خوفا من أن يفهم أنه يفرض الإسلام على أحد، فكان متسامحا والرجل القدوة كان دائما يرى العمل الدعوي عن طريق القدوة الذاتية.
أما رمضان في البوسنة، فقد كان العمل الإسلامي في العهد الشيوعي قبل الحرب ضعيفا جدا وكان عدد المصلين في المساجد قليل وأكثرهم من كبار السن، أما اليوم عندنا محطات إذاعية وتلفزيونية وكذلك الكتب كثيرة جدا والندوات والقنوات التلفزيونية حتى الحكومية وغير الحكومية تتسابق في تقديم برامج رمضانية مفيدة ودروس ولقاءات وقراءة القرآن، وكذلك مثلا مسلسل عمر بن الخطاب هذا يعاد كل رمضان وكثير من الناس يشاهد هذا المسلسل عن الخليفة عمر رضي الله عنه كل سنة وبكل اهتمام ودقة وكأنه يشاهده أول مرة وكذلك الإفطار الجماعي وإلقاء الدروس واللقاءات، وطبعا اللقاءات العائلية والإفطارات والآذان، ونحن في عاداتنا في شهر رمضان نبقى الأضواء مضاءة في المآذن أثناء رمضان، وكذلك شركات كبيرة أيضا تمكن المسلمين من الخروج لأداء صلاة الجمعة التي كانت لا تعترف بهذا. فالحمد لله بفضل هذه الحرية التي كسبناها بدماء شهدائنا وبفضل الله سبحانه وتعالى أولا طبعا ونحن نستمتع بالحرية التامة في هذا البلد، ولكن أقول لا أظن أن هناك بلدا في الدنيا فيه حرية أكثر مما هو عليه الآن في البوسنة.
نحن نعرف جميعا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تصفد في شهر رمضان المبارك، نحن نلاحظ هذا علنا عندنا في البوسنة، هناك عدد كبير غير ملتزم لكن في شهر رمضان المبارك تلاحظ تغير الأحوال، مثلا ليس هناك أحد يوبخ الآخر أو ينتقده، عندي في المدينة التي أعيش فيها في شهر رمضان وقت الإفطار تجد السوق ما فيها أحد من النصارى أو غير المسلمين، لأن المسلمين هم الأكثرية فإذا هم غابوا غابت الحياة. كذلك هنالك عادات عندنا شبيهة بعاداتكم نصنع نحن في رمضان النوعية الخاصة من الخبز اسمها رمضانية خبز مستدير وقطع صغيرة فتجد هناك طوابير لشراء هذا الخبز الطازج قبل الإفطار بنصف ساعة أو ساعتين وهكذا.
فأقول تهذيب رمضان للروح هو واضح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزيغ إلا هالك" وهكذا رمضان ومن لا يشعر بهذا ومن لا يؤثر فيه رمضان ولا يخرج من رمضان أفضل مما كان فهو فعلا خاسر ولا يلومن إلا نفسه.
البعض يقول غير العرب ربما حريصون على تطبيق الإسلام ويستشعرون الإسلام أكثر من العرب والمسلمين، هذا ينطبق على العائدين للإسلام وغير المسلمين الذين أسلموا وفعلا نحن نتعلم منهم أيضا حتى عندنا هذه الظاهرة موجودة الغربي الذي أسلم حديثا تجده يطبق الإسلام متبعا أوامره أحسن منا.
من مظاهر التحسن من الناحية الإسلامية في البوسنة مثلا في العهد الشيوعي كانت عندنا مدرسة إسلامية شرعية واحدة فقط تخرج الأئمة والخطباء في العاصمة سراييفو وعندنا اليوم 6 مدارس ثانوية و 3 كليات إسلامية تدرس العلوم الإسلامية، كذلك المشيخة الإسلامية وعندنا الإذاعة والتلفاز ومحطة التلفاز خاصة تابعة للمشيخة الإسلامية التي تبث برامجها 24 ساعة هذه جديدة ما كانت موجودة في السابق، كذلك الكتب كانت هناك حركة ترجمة لأصول الكتب الإسلامية إلى اللغة البوسنية وتمت والحمد لله معظمها، مثلا الكتب في الحديث ترجم تفسير ابن كثير، وترجم تفسير سيد قطب وهذه حركة قوية كبيرة جدا بحيث تمكن المسلم البوسني الذي لا يعرف اللغة العربية من التحصيل العلمي الجيد في العلوم الإسلامية، كذلك العادات مثلا الحجاب أصبح الآن ظاهرة واضحة جدا في مدن البوسنة بعد أن كان غائبا في فترة العهد الشيوعي، كذلك من الظواهر الجديدة عندنا في المتاجر والمراكز التجارية الكبيرة تجد هناك مسجد وعلامة مكتوبة مسجد، هذه كانت غير موجودة وفي محطات البنزين مثلا في الطرقات المفتوحة تجد هناك مسجد ومكان للصلاة وهذه نقلة كبيرة جدا، كذلك إدخال مادة التربية الإسلامية في المدارس الحكومية أصبحنا نحن الآن في البوسنة بعد أن كان التعليم الديني محصورا في كتاتيب المسجد ونحن صغار فقط، الآن أصبحت مادة التربية الدينية الإسلامية موجودة في المدارس الإعدادية والابتدائية والثانوية وفي كل المدارس البوسنية وعلى نفقة وزارة التربية والتعليم الحكومية الرسمية، ومن المظاهر أيضا حفظ القرآن الكريم. فهذه كلها مظاهر والحمد لله تبشر بالخير.
لا شك الرئيس علي وجهده السياسي ووصوله إلى الحكم أثر في هذا الأمر، تَصوّرا في أثناء الحرب في البوسنة والحرب مازالت قائمة لكن جلسة البرلمان الحكومي تقطع وتجعل هناك إستراحة لأنها يوم جمعة والرئيس علي يصلي الجمعة هذه كانت لها معنى وصدى معنوي كبير جدا لعموم الناس.